العالم 15 أكتوبر 2023 (منذ ساعتين) عبد العزيز رحابي*
الفلسطينيون شعب يتميز بالذاكرة، يثورون ضد الاستعمار الإسرائيلي الذي يطول أساسا بسبب الدعم غير المشروط من القوى الغربية. بريطانيا العظمى، لأنها أصل إنشاء إسرائيل ومصمم الخريطة الجغرافية للشرق الأوسط الحالي برمته، ألمانيا من جهتها تتحمل دينا تاريخيا ثقيلا مع اليهود تدفعه على حساب الفلسطينيين منذ الستينيات. والاتحاد الأوروبي من جانبه ممزق بين السعي وراء الإجماع المقدس بشأن سياسته الخارجية والتخفيف من التبعية العسكرية للولايات المتحدة، التي تمتد منذ الحرب العالمية الثانية، كما تتخوف أوروبا من تنامي رأي عام داخلي متمرد على نحو متزايد خلال هذه السنوات الأخيرة.
من جانبها، جعلت أمريكا من إسرائيل حليفها الحقيقي والممثل الحصري لمصالحها الاستراتيجية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا منذ عام 1948. وتنحصر علاقاتها مع الدول العربية في البحث عن ضمانات لحماية لإسرائيل أكثر من النية في التعامل مع مقترحاتها المتعاقبة كخطة السلام لجامعة الدول العربية للخروج من الوضع الراهن المأساوي الذي يعيشه الفلسطينيون. وعلى هذا النحو، فإن الاتفاقيات التي رعتها الولايات المتحدة مع بعض الدول العربية لا تلزم بأي حال من الأحوال الأطراف الفلسطينية المعنية ولا توفر أي ضمانة للسلام في فلسطين. وبذلك تكون الدول الموقعة على هذه الترتيبات قد أفرغت من مضمونها خطة السلام العربية الأخيرة للدولتين.
إن الوضع في فلسطين المحتلة سيؤدي في نهاية المطاف إلى توسيع قاعدة الدعم للقضية الفلسطينية في الرأي العام حول العالم غير الغربي الذي شهد تطورا نوعيا نتيجة لارتفاع مستوى التعليم وتعميم شبكات التواصل الاجتماعي والوعي بالمعيار المزدوج الذي يوظفه الغرب في المعاملة التفاضلية بين إسرائيل وفلسطين.
وهذه نقطة فاصلة تهدد بتوسيع الفجوات بين الحكومات في الدول العربية والرأي العام فيها الذي أصبح أكثر وعيا بثقله ووزنه في تحديد المواقف الخارجية فيما يخص فلسطين التي تحظى بإجماع اجتماعي شامل أكثر من أي وقت مضى. فالحداثة التقنية في دول الخليج، على سبيل المثال، ليست معزولة عن بقية ميادين حياة المواطنين الذين يعرفون حقيقة الأضرار الجانبية التي قد تمسهم بسب استمرار الحرب على فلسطين، كما أن العولمة، سواء أكانت مرغوبة أم مفروضة، لم تعد تقتصر على التبادلات التجارية بل توغلت بشموليتها في الأذهان وفي كيفية التعامل مع الغير.
إن استمرار احتلال فلسطين هو أيضا السبب الرئيسي لفشل الحوار بين الأديان، لأن العالم العربي والإسلامي يحكم على الغرب من خلال موقفه من مصير القدس الشريف والشعب الفلسطيني. أما الغرب، والولايات المتحدة على وجه الخصوص، فيحكمون على بقية العالم من خلال مواقفهم تجاه إسرائيل مع أن غطرستها هي التي سممت العلاقات بين الغرب والعالم الإسلامي. وهذا الوضع لا يزعج إسرائيل بل يخدم مصالحها لأنه يسمح لها بالظهور كوسيط والضابط الحقيقي للحوار بين الأديان الذي يبقى يمثل الإطار الأفضل للتفاهم المتبادل والسلام بين الشعوب.
ومع ذلك، فإن التاريخ لا يكتبه دائما الأقوى، ولا يوجد شيء ثابت غير قابل للتغيير في تاريخ الإنسانية ومسار الأمم. خلال 30 عاما سيحصل تحول ديموغرافي في الولايات المتحدة، وسيشكل السكان السود وهجرة أمريكا الجنوبية وآسيا أغلبية سكانها، الأمر الذي سيؤدي حتما إلى تغيير نوعي في السياسة الخارجية الأمريكية الحالية.
إن التوقعات الواردة لا تضع إسرائيل في مستوى المكانة المميزة التي تحتلها حاليا، ما يجعل أمريكا تبحث بجد وحزم عن حل يعزز ويثبت استدامة وأمن إسرائيل في المنطقة، وهي على يقين أن الوقت لا يخدم ممثلها التاريخي في الشرق الأوسط. ''اتفاقات ابراهام" هي جزء من هذا المخطط وتمثل أحد أهم محاوره. فإسرائيل لا تحتكر الذكاء ولا القوة، وهي تستمد وزنها الحالي من مجموعة من الظروف التاريخية التي تعتقد أنها ثابتة وأبدية. إن العالم يتغير، وهو لا يتغير منذ سنوات بالوتيرة التي يريدها الغرب، بل يتغير أيضا بالسرعة التي تريدها القوى الناشئة في آسيا وأمريكا اللاتينية وإفريقيا، وفي هذه المناطق لا يشارك الحكام ولا الرأي العام المواقف الغربية بشأن إشكالية المسؤولية في استمرار احتلال فلسطين والعنف الناتج عنه ويطالبون بحل "الدولتين لشعبين".
إن السلام في الشرق الأوسط يمر حتما عبر استعادة الفلسطينيين حقوقهم السياسية بكل الوسائل، بما فيها المقاومة المسلحة الشرعية ضد الاستعمار كما علمنا تاريخ الجزائر.
* دبلوماسي ووزير سابق
تقييم:
0
0
مشاركة:
التعليق على الموضوع
لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...
...........................................
=== إضافة تعليق جديد ===
في موقع خبار بلادي نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين خدماتنا. وبالضغط على OK، فإنك توافق على ذلك، ولمزيد من المعلومات، يُرجى الاطلاع على سياسة الخصوصية.