لماذا أُوقِف ذلك الأستاذُ عن العمل؟!
الرأي
لماذا أُوقِف ذلك الأستاذُ عن العمل؟!
أبو بكر خالد سعد الله
2023/10/11
يثبت الغرب “الديموقراطي” الذي ينادينا -نحن في العالم الثالث- بفرض حرّية التعبير في الجامعات وإطلاق العنان للفكر الحر، أنه في كل مرة “يَنهى عن خلق ويأتي مثله”.
فعلى سبيل المثال، نذكّر هنا بما حدث عندما اندلعت الحرب الروسية الأوكرانية في السنة الماضية، فبمجرد اندلاعها سارع المركز القومي للبحث العلمي الفرنسي (CNRS)، ذائع الصيت على المستوى العالمي في مجال البحث العلمي، إلى اتخاذ قرار غريب يقضي بمنع منتسبيه من التعاون العلمي مع زملائهم الروس، وبرر موقفه قائلا: “من غير المقبول أن يندلع مثل هذا الصراع خلال القرن الحادي والعشرين داخل الأراضي الأوروبية… العلم ليس له حدود، ولكن القيم التي تمتلكها جميع المجتمعات العلمية وتتقاسمها لا يمكن أن تتسامح مع هذه الحرب”! ثم يضيف إعلان المركز: “يعلق المركز القومي للبحث العلمي جميع أشكال التعاون العلمي الجديدة مع روسيا، كما يلغي جميع التظاهرات والنشاطات العلمية المستقبلية التي تشارك فيها روسيا”.
وفي 9 أكتوبر…
يعيد علماءُ فرنسا الكَرّة بطريقتهم في الحرب الدائرة رحاها منذ 7 أكتوبر بين إسرائيل وفلسطين؛ ففي مساء يوم الاثنين 9 أكتوبر 2023، كتبت وزيرة التعليم العالي الفرنسية على الثامنة والنصف ليلا رسالة وجَّهتها إلى رؤساء الجامعات ومديري مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي الفرنسية، وكذا إلى الولاة، مهّدت لها بهذه العبارات: “خلال الساعات الأخيرة، شهدنا أحيانًا تصرفات وتعليقات غير لائقة بشكل خاص. ويجب معاقبة الدعوة إلى الإرهاب أو التحريض على الكراهية أو العنف”.
أضافت الوزيرة موجِّهة خطابها لرؤساء الجامعات: “لقد دعوت رئيس اتحاد الطلبة اليهود في فرنسا للّقاء بي خلال الأيام المقبلة لتعزيز عملنا في منع ومكافحة الأعمال المعادية للسامية”. وسأجمع أيضًا ممثلي ندوات مؤسسات التعليم العالي، وكذا مرجعيي ‘العنصرية ومعاداة السامية’ للتذكير بالتوجيهات التي تم التأكيد عليها كجزء من خطة مكافحة العنصرية ومعاداة السامية والتمييز”. وفي كل هذه الرسالة التي تجاوزت الصفحة لا نجد ولو كلمة واحدة تشير إلى فلسطين أو إلى ما يجري في غزة من دمار.
وقد جاء في مقدمة هذه الرسالة التي نُشرت في حساب تويتر للوزيرة: “منذ يوم السبت 7 أكتوبر 2023، تعرضت دولة إسرائيل لهجمات إرهابية. وأعربت فرنسا، على لسان رئيس الجمهورية والحكومة برمتها، عن إدانتها الشديدة، وكذا عن تضامنها الكامل مع إسرائيل والإسرائيليين”. ثم تنبّه إلى أن المؤسسات الجامعية الفرنسية “تشكِّل أماكن للحياة والدراسة، وتساهم في توسيع رقعة المعرفة. إن مناقشة الأفكار مضمونة، لاسيما من خلال الاستقلالية وحرية التعبير الكاملة الذي يتمتع به الأساتذة الباحثون أثناء ممارسة مهامهم الوظيفية”.
لماذا كتبت الوزيرة رسالتها بهذا المعنى وفي هذا اليوم بالذات؟ لأن أستاذا محاضرا في القانون الدستوري بكلية الحقوق في جامعة السوربون توجَّه لطلبته في صباح اليوم ذاته بعبارات قيل إنها “غير مقبولة” جاء فيها: “لقد تأخّرتم، سأتصرف معكم مثل ما جرى في حفل رافا”. وهو يقصد ما رُوي عن هجوم الفلسطينيين يوم 7 أكتوبر الذي طال حفلا راقصا [حفل رافا] قُتل خلاله حسب الرواية نحو 250 شخصا. وقد فُسِّرت هذه العبارة على أنها “استهتارٌ” بـ”جريمة” هجوم حماس على “إسرائيل” وأنها “ذات دلالات معادية للسامية”. وواصل هذا الأستاذ مخاطبا طلبته بأسلوب يبدو مازحا: “هناك كهرباء هنا، الوضع ليس كما هو الحال في غزّة. هل تحتاجون إلى صواريخ لإيقاظكم؟”.
أما الجامعة فبعد أن وصلتها رسالة الوزيرة ليلا، قالت صباح اليوم الموالي ( يوم 10 أكتوبر) إنها “أحيطت بالتصريحات غير اللائقة، التي يحمل بعضُها دلالات معادية للسامية، والتي أدلى بها أمس 9 أكتوبر 2023 أحد المحاضرين… لقد شعر الطلبة الموجودون في القاعة بالإهانة – وهذا الشعور مشروع- جراء التعليقات التي تم الإدلاء بها”. وبعد ذلك تضيف الإدارة: “ندين بشدة وبلا تحفظ هذه العبارات التي تتعارض مع متطلبات رسالتنا التعليمية. وبعد التحقيق والاستشارة، تم إيقاف الأستاذ المعني…”.
كيف علِمت الوزيرة؟
كيف علمت الوزيرة بالحادثة؟ على الساعة الرابعة زوالا من يوم الاثنين 9 أكتوبر، ندد اتحاد الطلبة اليهود في فرنسا -مستخدما شبكات التواصل الاجتماعي- بالعبارات التي أدلى بها الأستاذ المذكور صباح اليوم ذاته مطالبا بطرد ذلك الأستاذ من الجامعة. وبعْد أربع ساعات بعثت الوزيرة رسالتها الموجَّهة إلى رؤساء الجامعات.
وفي هذه الرسالة تبرر وزيرة التعليم العالي الفرنسية موقفها بالقول: “لقد شاهدنا خلال الساعات الأخيرة لدى الجمعيات والتجمعات، وأحيانًا لدى الجهات الفاعلة في مؤسساتنا، تصرفات وتعليقات غير لائقة بشكل خاص. إن الدعوة إلى الإرهاب أو التحريض على الكراهية أو العنف أو التمييز محظورة بموجب القانون، ويجب أن يعاقَب عليها. إنها لا تشكل أفكارًا، بل تمثل تجاوزات لا تطاق لمبادئنا الجمهورية”. ثم تضيف “أود أن أجدد التأكيد على الحزم الكبير الذي أبدته الدولة في مواجهة مثل هذه التجاوزات”!
وبعد ذلك تدلي الوزيرة بتعليماتها لرؤساء الجامعات: “وفي هذا السياق، أود أن أذكّركم بأن الأمر متروكٌ لكم، بصفتكم رؤساء لهذه المؤسسات ومسؤولين عنها، لاتخاذ جميع الإجراءات اللازمة لضمان الالتزام بالقانون ومبادئ الجمهورية -التي أعرف أنكم متشبثون بها جيدًا- لمنع أي موقف من شأنه أن يسبّب اضطرابًا للنظام العام… وأدعوكم إلى اتخاذ العقوبات التأديبية والإجراءات القانونية المناسبة عن أي مخالفة، بما في ذلك الإبلاغ عنها إلى النائب العام، وفقا للمادة 40 من قانون الإجراءات الجزائية. كما أشار وزير الداخلية إلى إمكانية دراسة إجراءات حلّ أي هيئة تتورط في سلوكيات مستهجَنة”.
وإثر نشر هذه الرسالة ليلا، صرَّح وزير العدل عند الصباح بما يدعم مضمونها. ولم تكف هذه التوضيحات والتهديدات، بل أضافت الوزيرة موجِّهة خطابها لرؤساء الجامعات: “لقد دعوت رئيس اتحاد الطلبة اليهود في فرنسا للّقاء بي خلال الأيام المقبلة لتعزيز عملنا في منع ومكافحة الأعمال المعادية للسامية”. وسأجمع أيضًا ممثلي ندوات مؤسسات التعليم العالي، وكذا مرجعيي ‘العنصرية ومعاداة السامية’ للتذكير بالتوجيهات التي تم التأكيد عليها كجزء من خطة مكافحة العنصرية ومعاداة السامية والتمييز”. وفي كل هذه الرسالة التي تجاوزت الصفحة لا نجد ولو كلمة واحدة تشير إلى فلسطين أو إلى ما يجري في غزة من دمار.
ووزير العدل ليس الوحيد الذي تدخَّل في هذا الموضوع بعد وزيرة التعليم العالي، إذ جاء في تصريح الوزيرة الأولى الفرنسية عشية اليوم ذاته (10 أكتوبر) أمام البرلمان تأكيد على “أن فرنسا تقف إلى جانب الجالية اليهودية التي تحتفل بعدة أعياد منذ بداية العام اليهودي الجديد في منتصف سبتمبر”، وتضيف الوزيرة الأولى مخاطبة هذه الجالية: “نحن معكم، ومهاجمتكم هي مهاجمة الجمهورية بأكملها”.
ذلك هو المكيال المختلّ للمدافعين عن حقوق الإنسان، من ساسة وعلماء وجامعات. وهم لا يتركون فرصة إلا صاحوا في وجوهنا غاضبين: اسمعوا وعوا.. هذه هي دروب حرية التعبير فاسلكوها!