“إسرائيل”.. “قوة لا تقهر”؟! ل- عبد الحميد عثماني 2023/10/08
ظلّت النخب المهزومة والإعلام الوظيفي في بلادنا العربية يرددان على مسامع الأجيال طيلة عقود من النكسة والنكبة، أنّ “إسرائيل” قوة لا تقهر، لذلك سيكون من الجنون التفكير في مواجهة عسكرية مفتوحة مع الاحتلال الصهيوني.
لقد نجحت الدوائر الصهيونية العالمية، عن طريق المنظومة الإعلامية الدولية، وأنظمة عميلة فاقدة للشرعية، في بثّ وهَم القوة الجبّارة المطلقة، لإحباط معنويات المسلمين والعرب، وتخديرهم بالعقيدة الجبرية القدريّة، للدفع بهم نحو الاستسلام.
لكن المقاومة الفلسطينية الباسلة، والتي لم تنقطع منذ 70 عامًا، تعيد اليوم، بتطوُّر مدهش في إمكاناتها العسكرية والتقنية والبشرية، صياغة المعادلة على الأرض، برسم قواعد اشتباك مختلفة ومتجاوزة لعائق تكافؤ القوى التقليدية، قوامها تشبّث صاحب الأرض الأصيل بحقه الخالد في الحياة فوق جغرافيا الوطن المغتصَب، أو الاستشهاد دونه بشرف، ولا خيار آخر غيرهما.
ما كانت تبوح به نخب الكيان الصهيوني منذ نصف قرن وزيادة من هواجس البقاء، بدأ يتحقق اليوم ميدانيّا، وهو أن “إسرائيل” مهدّدة من الداخل، بفعل تآكل إيديولوجيتها التأسيسيّة والتناقض البنيوي بين مكوناتها الطائفيّة، لكن الأخطر هو مطاردتها من أبطال المقاومة الفلسطينية بكل الوسائل المتاحة، والتي لم تعد حاليّا مجرد أدوات بسيطة للفت النظر وإثبات الذات أمام المحتلّ، بل صارت قوة مدهشة قياسًا بظروف الحصار الشامل، ما يعني أن العقل الجهادي الفلسطيني قد تحرّر من طوق الخذلان إلى ساحات الإبداع الذاتي، وهو أول شروط الثورة العارمة على الكيان الصهيوني.
لطالما أرعبونا بقوة “إسرائيل” حتى خُيّل إلينا من ذلّهم أنّها تراقبنا في غرفنا الخاصة وفوق أسرّة النوم وبيوت الخلاء، فهي لا تخفى عليها خافية، ولديها شبكة أخطبوطية تخترق كل أنظمة العالم ودوائره ومؤسساته وجيوشه، إلى درجة السيطرة النهائية على حركة الإنس والجانّ فوق كامل المعمورة، بحسب أراجيف فرقة الانبطاح، وكل ذلك بهدف واحد، هو التمكين للوهن من قلوبنا وحسم المعركة لصالح العدوّ بالرعب النفسيّ.
صحيحٌ أن “إسرائيل” هي مشروع الإمبريالية الصهيونية في الأساس، لكن ما يتعمد الكثيرون إخفاءه أو ربما لجهلهم بحقيقته، هو أن علاقتها براغماتيّة بالمنظومة الغربية، إذ تقوم على مصالح متبادلة، وحين تنتفي تلك المنافع أو تصبح موضع تهديد لمصالح غربية أكبر في المنطقة، سيكون الغرب مجبرا على تغيير سلوكه تجاه الصراع، غير أننا لم ندفعه -نحن العرب والمسلمين- بعدُ إلى الزاوية الضيقة، أيّ أن المسألة لا تتعلق بجبروت الاحتلال الإسرائيلي، بل بتفريطنا في مقدسات الأمة.
أمّا قصة “إسرائيل” التي تدير العالم في أصابعها مثل الخاتم، فهي أسطورة مبالغ فيها كثيرا، ولا أدلّ على ذلك من فشلها العسكري والاستخباراتي في أكثر من مرّة، عبر سيناء والجولان وغزة وجنوب لبنان، وآخرها عملية “طوفان الأقصى” التي خلّفت له صدمة وفضيحة سياسية وأمنية بكل المقاييس.
بعيدا عن إثارة العواطف الجيّاشة، فإنّ المقاومة قادرة فعليّا على إنهاء الاحتلال عاجلا أو آجلا لو تحظى بالالتفاف الفلسطيني الداخلي الشعبي والفصائلي الشامل فوق كل الأراضي المحتلة منذ 1948، موازاة مع الدعم العربي الإسلامي.
يقسّم المفكر، عبد الوهاب المسيري، رحمه الله، الجيوب الاستيطانية عبر التاريخ إلى صنفين، الأول نجح في إبادة السكان الأصليين، فكُتب له الاستمرار، على غرار ما وقع في الولايات المتحدة وأستراليا، وآخر أخفق في الإبادة، مثل ما حدث مع الممالك الصليبية والجزائر وجنوب إفريقيا، فانتهى إلى الزوال المحتوم، والكيان الصهيوني من الصنف الثاني قطعًا، ولا وجود لأيّ مؤشرات أو مبررات تجعله استثناء من القاعدة، على حدّ تعبيره.
سيطلع من يذكّرنا بسلاح “إسرائيل” النووي، متناسيًا أنّ دولا كثيرة أخرى تملكه في الواقع، في وقت لم يعد صالحًا أصلا لفرض الاستعمار الاستيطاني على شعب متمسك بالأرض والحرية في القرن الواحد والعشرين، لأن العدو ليس بمقدوره، رغم كل الحروب الوحشية التي خاضها لتهجير السكان، أن يجبرهم على العيش جماعيا خارج فلسطين التاريخية.
من المعلوم أنه لا يوجد مهزوم ومنتصر في الحروب غير المتوازية، أي بين جيش نظامي وحركة تحرير، بل المعركة خاضعة لمبدأ “من يصرخ أولا؟”، ومثال ذلك أنّ الأمريكيين لم يُهزموا بالشكل التقليديّ في فيتنام والعراق وأفغانستان، لكن الإرهاق أنهك قواهم ما اضطرّهم للانسحاب، وهو تمامًا ما سيحدث لجيش الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة مهما طال الزمن.
نحن على يقين أن المقاومة وحدها، برغم الفاتورة الباهظة من الشهداء والخسائر المادية، قادرة على هزّ أركان الكيان الصهيوني بتفكيكه من الداخل، لأنّ الفائض البشري اليهودي الحالم بالمال والخيرات والاستقرار فوق فلسطين، سيدشن هجرة عكسية سريعة نحو مواطن التسفير الأوروبية والروسية والمغربية والأمريكية، عندما يفقد شعوره بالأمان على حياته، لأنّ عقيدة الدولة التلمودية مجرد فرية دينية لتجييش اليهود وراء المشروع الإمبريالي الصهيوني.
أما ما يلوكه عبيد العرب، نقلاً عن أسيادهم، من شعارات السلام وحل الدولتين والتطبيع و”الديانة الإبراهيمية” وسواها، فهي كلها خيارات سراب، لن يكون لها أثرٌ على الأرض، طالما ظلّت عروق الأمة وشعوبها الكريمة تنبض بالحياة، فإنْ قتلتموها عن بكرة أبيها، فإنّ فلسطين لكم لا ينازعكم عنها أحد.