… عن “المافيا الفوكارتيّة” الفرنسية في إفريقيا؟
ما تشهده دول الساحل الإفريقي مؤخرا، من حراك شعبي متصاعد ضد الوصاية الفرنسية، خاصة بعد كسر نفوذ باريس في مالي وتنامي موجات الغضب في التشاد وبوركينا فاسو وآخرها النيجر، يشكّل صحوة سياسيّة خطيرة ستصحح الأوضاع الموروثة عن حركة الاستعمار الحديث.
ربما يرفض البعض تحميل فرنسا وشركائها الاستعماريين مآسي القارة الإفريقية، لكنهم يتجاهلون عمدا الإقرار بأن باريس تحديدا استغلت الارتباط التاريخي لتكبيل مستعمراتها السابقة بعد الاستقلال، حتّى تبقى مجرّد أسواق لتصريف السلع الفرنسية المصنَّعة، ومصادر لمواردها الأوليّة.
وبلغة الأرقام، تملك فرنسا 200 شركة اقتصادية واستثماريّة في الساحل، وقد تضاعف عددُها إثر التدخل العسكري بمالي منذ 2012، لنهب مناجم الذهب والفوسفات واليورانيوم وباقي المعادن النفيسة وحقول النفط، عبر صفقات مشبوهة، وفق قاعدة الولاء والعمالة والتبعية، بعيدا عن قواعد المنافسة والشفافية الاقتصادية.
واشترطت فرنسا على بنوك دول الساحل المرتبطة بعملتها إيداع 65 بالمئة من أموالها لدى البنك الفرنسي، حتى تضمن سيطرتها على حصة الأسد من التجارة البينية معها.
كما تعدُّ مجموعة “توتال، فان، ألف” الفرنسية النفطية، من أهم الشركات العالمية الناشطة في إفريقيا، حيث تتركّز ما يقارب نصف استثماراتها عالميّا بالمنطقة، بينما تحصل فرنسا على خامات الحديد الموريتاني من منطقة الزويرات، لذلك تخشى باريس على نفوذها الاقتصادي من الاندماج المغاربي العربي، فضلا عن تقارب نواكشوط مع الجزائر تحديدا، لأن ذلك سيُنهي نفوذها تدريجيّا في منطقة غرب إفريقيا عمومًا، بحسب وهيبة دالع، الباحثة الجزائرية في العلاقات الدولية.
وقد استحدثت باريس جهازا يسمَّى “الوكالة الفرنسية للتنمية”، بعنوان مرافقة الدول الإفريقية المتخلّفة، بينما يبقى الهدف الفعلي من وراء ذلك هو تبرير تواجدها بالساحل الإفريقي بغية الوصول إلى الموارد الطبيعية الاستراتيجية وتنمية صناعاتها الثقيلة والنووية، إذ تتزود على سبيل المثال محطاتها النووية بثلث اليورانيوم المستعمَل من النيجر وحدها، عن طريق مجمع “أريفا” في مناجم “إموران” و”أرليت”.
ولحماية تلك المصالح العظمى، عمدت فرنسا إلى إقامة أكثر من 100 قاعدة عسكرية بإفريقيا عقب السنوات الأولى لاستقلال مستعمراتها، قبل أن تتقلص كثيرا بفعل التطورات الجيوسياسية، لكنها عوّضتها باتفاقيات الدفاع المشترك مع ثماني دول مهمّة بالقارة، فضلا عن 21 اتفاقية تعاون عسكري ومعونات فنية مع بلدان إفريقية أخرى.
مقابل ذلك، لجأت إلى اللعبة الدبلوماسيّة بدعم النخب الحاكمة الموالية لها، مع تقديم نفسها داعمة للأمن ومحاربة الإرهاب لتسويغ تدخُّلها المباشر في الساحل.
ويبقى الأخطر ضمن وسائل تكريس الهيمنة الفرنسية هو تأسيسها “خلية خاصة” في قصر الإليزي منذ الستينيات، عُرفت باسم “الشبكة الفوكارتية”، نسبة إلى جاك فوكار، صاحب الدور الحاسم في سقوط الأنظمة وتعيين الحكّام والانقلابات العسكرية في عدة بلدان.
ولم تتورَّع تلك الشبكة في سبيل تحقيق أهدافها الخبيثة عن استعمال كل الوسائل الدبلوماسية والعسكرية والمالية والمافيويّة، وأبرزها الوقوف وراء الحروب الانفصالية، لأجل السيطرة على الموارد الطبيعية، وخير دليل على ذلك تورُّطها في المجازر الرواندية ونزاعات أنغولا وليبيريا وسيراليون والكونغو- برازافيل، فضلا عن هندستها للأنظمة التسلطية في الكاميرون والغابون والتشاد وسواها.
وكانت تلك الشبكة “الفوكارتيّة” تشتغل على مستوى الدول مباشرة، ومع الفواعل غير الرسمية أيضا، على شكل جماعة مافيويّة تقليديّة، بالتعامل مع زعماء الأحزاب ورجال الأعمال والاستخبارات وتجّار السلاح والشركات النفطية والجيوش والصحافة والمنظمات الإنسانية، مثلما توثّقه الباحثة، فوزية زراولية، في كتابها “الموارد الطبيعية والنزاعات المسلحة في إفريقيا جنوب الصحراء”.
ولا يشكل النفوذ الفرنسي في ساحل إفريقيا مفاجأة طارئة، بل هو تتويجٌ طبيعي لمخطط قديم للسيطرة على المنطقة، بشعار “التنظيم الموحد للأقاليم الصحراوية”، باعتباره تجسيدا لفكرة رجل الدين الفرنسي “الأب شارل دو فوكو”، وهو في الأصل رجل مخابرات قبل تعيينه قديسًا في 09 أوت1901، ومن أشهر تعليماته الموثقة في مراسلات خطة “pan touareg” قوله: “يجب عدم السماح للتوارق بتعلم اللغة العربية وتعاليم القرآن، بل على العكس يجب منعُهم وتحويلهم عن ذلك”.
تلك المعطيات الحقيقيّة هي التي جعلت إفريقيا نموذجا للمفارقات الاقتصادية، فهي رغم توفرها على موارد هائلة، ظلّت دومًا ضحيّة للأطماع الفرنسية، عوض أن تصنع منها مقوِّمات نهضة تنموية، فلا تزال بعد عقود من التحرر الظاهري تعاني من ضعف الإنتاج والخدمات والبنى التحتية، بل تقبع على هامش التجارة العالمية، إذ لا تتجاوز مساهمة اقتصاديات القارة 1.6 بالمئة من الناتج العالمي الخام، بينما يمثل سكانها عُشر العالم.
إنّ الفرصة سانحة الآن أمام الأفارقة، في ظل التحوّلات الكونيّة الكبرى، بصعود قوى دولية وإقليمية جديدة، مثل الصين وروسيا والهند وتركيا، لقلب الطاولة على مراكز النفوذ التقليديّة وإسقاط وصايتها إلى الأبد.