الجزائر والسعودية.. آفاقٌ بعيدة المدى
إرادة قوية وحكيمة من قيادة البلدين تدفع بالعلاقات إلى قمّة الازدهار
الجزائر والسعودية.. آفاقٌ بعيدة المدى
عبد السلام سكية
2023/08/30
بعد شهرين فقط من تقلد الرئيس عبد المجيد تبون مقاليد الحكم في البلاد عقب انتخابات 12 ديسمبر 2019، أجرى في نهاية فيفري 2020 أول زيارة رسمية إلى الخارج، ولم يكن الأمر اعتباطيا باختيار المملكة العربية السعودية، لما لها من رصيد وقوة على الصعيدين الإقليمي والدولي، ضمن صدارة البلدان الأكثر ثقلاً على الصعيد السياسي والاقتصادي في المنطقة العربية، لتكون وجهته الأولى، وكانت الزيارة بداية لمسار متعدد بين البلدين لتعزيز علاقات تمتد لعقود وتبشر بآفاق بعيدة المدى من الثقة المتبادلة والتعاون المثمر والعلاقات الاستراتيجية بين مركزين ثقيلين في الإقليم العربي.
تبنّت المملكة العربية السعودية حكومة وشعبا القضية الجزائرية، منذ اندلاع ثورة التحرير، واعتبرتها امتدادا للعمق العربي المشترك، ولم تبخل بتقديم الدعم المادي أو المعنوي، رغم معارضة فرنسا وحلفائها، الكثير من جيل اليوم يجهل مساندة المملكة العربية السعودية وكل ملوكها وأمرائها لثورة التحرير الجزائرية، ولذلك وجب علينا الإشادة بهذا الدعم، والجزائر لا تنسى من وقف إلى جانبها في محنتها إبان الحقبة الاستعمارية.
بتاريخ 5 جانفي، 1955 أي شهرين بعد اندلاع الثورة، تقدم ممثل العربية السعودية بنيويورك إلى الأمم المتحدة بطلب النظر في القضية الجزائرية التي يعاني شعبها من تسلط وبطش استعماري بغيض. وحملت المملكة عبر ممثلها أحمد الشقيري المسؤولية الكاملة لفرنسا عما يحدث للجزائريين، واستطاعت إقناع أربع عشرة دولة إفريقية وآسيوية من الدول المشاركة في دورة الأمم المتحدة عام 1955، بدعم طلب إدراج القضية الجزائرية في جدول أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة.
كما كانت المملكة العربية السعودية من الدول العربية التي لم تقطع دعمها المادي للثورة، وتم فتح اكتتاب شعبي عام على مستوى التراب السعودي، بقصد التبرع بالأموال لحساب الثورة، بمبلغ مائة مليون فرنك، على أن يكون نصيب الحكومة 250 مليون، بضمانة الملك الراحل سعود، وكان هو أول من يدفع من ماله الخاص مبلغا للصندوق الخاص للثورة، وأمر بتطبيق القرار نفسه على كل الأمراء مع ضرورة مشاركة الشعب السعودي لإنجاح العملية.
“السعودية عانت من أجل استقلال الجزائر” والرئيس تبون يستذكر الخير
في حوار مع قناة “الجزيرة”، عاد الرئيس تبون إلى السياقات التاريخية للعلاقات الجزائرية السعودية المتينة، حيث أكد أنها “تعود إلى فترة الثورة التحريرية”، مثمنا “الموقف السعودي الداعم للثورة الجزائرية ونوه بالمواقف المشرفة للملك فيصل الذي اعتبره واحدا من “أكبر زعماء الأمة”.
وشدد الرئيس تبون على أن “جودة العلاقات الجزائرية-السعودية مستمرة”، مؤكدا “مساندة الجزائر للمملكة ورفضها لأي مساس بها أو بأمنها”.
دولتان محوريتان عربيا داعمتان لفلسطين وترفضان مسار التطبيع
أما في الوقت الحالي، فإنّ المعطيات تؤكد صعود العلاقات الجزائرية السعودية خلال الفترة المقبلة إلى مستويات أفضل بكثير من السابق، خاصة أن سلسلة الزيارات رفيعة المستوى الأخيرة بين البلدين تعزّز الاعتقاد بوجود جهد لإعادة بناء محور الجزائر – الرياض، على نحو مغاير، وبصورة تكون فيها الانعكاسات ذات إيجابية بالغة، ليس على البلدين فحسب، ولكن على الكثير من أزمات المنطقة العربية. ذلك جزء من مسار جزائري لهندسة وإصلاح العلاقات مع دول عربية مؤثرة في الإقليم، واستعادة دور تفرضه الكثير من الضرورات السياسية والاقتصادية ومقتضيات الأمن القومي.
تظل القضية الفلسطينية واحدة من أهم الملفات التي تعمل عليهما الدولتان، مستندة في ذلك لموقف ثابت موحد هو “إقامة الدولة الفلسطينية”، زيادة على رفض التطبيع مع الكيان الصهيوني، حيث تشكل الجزائر والرياض سدا منيعا لمحاولات التطبيع التي بدأتها دول عربية وخليجية تحديدا.
ولأن النفط إحدى نقاط التلاقي بين البلدين، فقد تم تعزيز آليات التنسيق والتعاون بين الجانبين في إطار منظمة “أوبك”، حيث تم تكثيف الجهد بين الجانبين، لتحقيق “السعر العادل للذهب الأسود”، وهو ما تحقق مع التحرك السعودي القاضي بتخفيض الإنتاج، الأمر الذي وافقت عليه الجزائر، معتبرة إياه “قرارا تقنيا” يخدم مصالح الدول المنتجة والمستهلكة.
وتشير تصريحات القيادة السعودية إلى رغبتها الكبيرة في المضي لتعزيز علاقتها مع الجزائر، الأمر الذي أكد عليه وزير خارجيتها برغبة الرياض في تعزيز التنسيق والتعاون بين البلدين في كافة المجالات، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو غيرها، حيث إن قيادة المملكة ترى أن العلاقات الثنائية بين البلدين هي إحدى اللبنات الأساسية في العمل العربي المشترك.
ويرى مراقبون أن الانطلاقة الجديدة للعلاقات بين البلدين، يمكن أن تشمل العديد من المجالات، بما في ذلك التعاون الأمني والتصنيع العسكري، حيث سبق لقائد الأركان الفريق أول، السعيد شنقريحة، أن تباحث مع نظيره السعودي، سبل تعزيز التعاون الأمني والعسكري بين البلدين، خلال مشاركتها في افتتاح معرض الدفاع والأمن في البرازيل، قبل أشهر.
مجلس أعلى للتنسيق.. فضاء لتمتين العلاقات بين الجانبين
تتعدد مجالات التعاون بين البلدين والتنسيق، نظرا لأهمية البلدين، الجزائر والسعودية، بحكم موقعيهما الهامين، الأولى في شمال إفريقيا وقربها من أوروبا وحدودها مع منطقة الساحل، وأهمية المملكة العربية في المنطقة العربية والخليج، في مجالات الأمن والسلم الدوليين، إضافة إلى المجال الاقتصادي، فكلتا الدولتين نفطيتان، لذلك تطلب الأمر إنشاء فضاء خاص لترتيب وتنظيم مجالات العمل والتعاون، حيث تجسد في “مجلس التنسيق الأعلى بين البلدين”.
وتم التوقيع بين الجانبين على إنشاء المجلس، في ماي الماضي، والذي سيمثل إطار التنسيق السياسي والتعاون الاقتصادي بينها، بعد 5 سنوات من إعلان الرياض عن استحداثه والذي تم خلال الزيارة التي قام بها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان إلى الجزائر في الثالث من ديسمبر 2018، حيث سيتولى المجلس “التكفل بتعزيز التعاون الثنائي في المجالات السياسية والأمنية، ومكافحة الإرهاب والتطرف، والاقتصاد، والتجارة، والاستثمار، والطاقة، والتعدين”.
وقد وقع الرئيس تبون على مرسوم رئاسي، يتضمن التصديق على الاتفاق بين الحكومة الجزائرية وحكومة المملكة العربية السعودية لإنشاء مجلس التنسيق الأعلى الجزائري – السعودي، وفقا للعدد رقم 50 من الجريدة الرسمية، حيث صدر مرسوم رئاسي رقم 23-283 مؤرخ في 13محرم عام 1445 الموافق 31 جويلية سنة 2023.
وسيتولى رئاسة المجلس شرفيا كل من رئيس الجمهورية وولي العهد السعودي، على أن يقوم بمهمة الرئاسة التنفيذية وزير الخارجية الجزائرية ونظيره السعودي.
تعاون وتوافق يثير حفيظة البعض
بالمقابل، تؤكد الشواهد أن سمو العلاقات بين الجزائر والمملكة والتوافقات الحاصلة بينهما في عديد المسائل، سواء السياسية أو الاقتصادية، علاوة على القضايا الإقليمية، تثير حفيظة بعض الأطراف، والتي عملت على ضرب هذه العلاقة المتينة وتشويه البلدين ومحاولات إحداث الوشاية بينهما، خاصة في المحطات المهمة التي احتضنتها الدولتان، عبر تقديم قراءات قاصرة للأحداث.
ومن شأن وضع آليات لتعزيز التعاون على محور الجزائر الرياض، قطع الطريق أمام محاولات الوقيعة بينهما، خاصة أن السعودية قد أكدت وجود مساعي للتشويش على البلدين، وهو ما قاله سفيرها قبل فترة “لاحظنا على مواقع التواصل الاجتماعي، مؤخرا قيام أشخاص بحسابات وهمية مجهولة، بنشر أخبار ومواضيع لبث الفتنة والفرقة بين الشعبين السعودي والجزائري الشقيقين”، وأكد أن “العلاقات السعودية الجزائرية ستبقى عصية على دعاة الفرقة والانقسام بين الشعبين والبلدين”.
الباحث بوزيدي: العلاقات الجزائرية السعودية شهدت تطورات كبيرة
وفي توصيفه لواقع العلاقات بين البلدين، يقول الباحث في العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية يحيى بوزيدي، “تشهد العلاقات الجزائرية السعودية تطورات كبيرة جدا في مختلف المجالات، لعل أبرزها وليس آخرها مجلس التنسيق الجزائري السعودي، وهو أمر طبيعي بحكم العلاقات التاريخية التي تجمع البلدين والدعم التاريخي اللامحدود من طرف المملكة للثورة الجزائرية”.
ويتوقف الباحث في العلاقات الدولية في حديثه لـ”الشروق” عند وزن الجزائر والمملكة، مؤكدا “الأهمية الجيوسياسية للدولتين في إقليم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، حيث تعتبر السعودية قوة إقليمية في منطقة الخليج والجزائر القوة المماثلة في المغربي العربي، ومصالحهما تتداخل في العديد من الدوائر الجيوسياسية، ولعل أبرز الأمثلة على ذلك، ما يحصل في منطقة الساحل وشرق إفريقيا، والتداخل بين حازمتي السودان والنيجر، وتداعياتهما على الجزائر والسعودية، بشكل مباشر وغير مباشر”.
ويشير الدكتور بوزيدي إلى التوافق الحاصل بين البلدين بخصوص قضايا المنطقة والعالم، حيث إنّ مقاربات الدولتين للأزمات الإقليمية وحتى العالمية على قدر كبير جدا من التماثل، حيث التركيز على الأدوات السلمية والجهود الدبلوماسية والحث على تجنب الحروب والأدوات العسكرية والوقوف على مسافة واحدة من أطراف النزاع، وهو ما يؤهلهما لاحتضان المبادرات الرامية لحل تلك الأزمات، على حد تعبيره.
ويضيف بوزيدي أن “من الملفات الجامعة لرؤيتي البلدين، القضية الفلسطينية، والتي تتمسك فيها المملكة السعودية بالمبادرة العربية التي سبق لها أن حظيت بدعم جزائري من حينها، وكلا القيادتين يرفضان الانخراط في مسار التطبيع، وهما داعمان أساسيان لحقوق الشعب الفلسطيني الثابتة والدفاع عن القضية المركزية في المحافل الدولية”، بل إن هذا الملف تحديدا يجعلهما في حالة تمايز مع أقطاب أخرى تتآمر على الشعب الفلسطيني في وضح النهار.
أما في الجانب الاقتصادي، يقول المتحدث إن كلا الدولتين نفطيتان وتنسقان في إدارة ملف الطاقة على مستوى منظمة “أوبيك” وخارجها، بما يخدم مصالح الدول المصدرة للنفط، كما أنهما تمتلكان الكثير من الموارد الأخرى التي يتوجب عليهما تكثيف جهود التعاون فيها، من خلال فتح نوافذ مؤسسية متنوعة، تتيح المجال لرجال الأعمال السعوديين والجزائريين معرفة فرص ومجالات الاستثمار الممكنة، خاصة في ظل الرغبة القوية المعبر عنها مؤخرا من متعاملي الطرفين، على حد تعبيره.
ويختم الدكتور بوزيدي قراءته للعلاقات الثنائية بين البلدين بالتأكيد أنه في ظل التطورات العالمية والإقليمية، فإن المرحلة تقتضي تكثيف جهود التعاون التي تستوجب على القوى الإقليمية في كل فضاء جيوسياسي أخذ زمام المبادرة وملء الفراغات التي تسعى بعض القوى لملئها على حساب مصالح شعوب ودول المنطقة المستهدفة.
وفي هذا السياق تجدر الإشارة، يتابع بوزيدي، إلى أن المملكة تعرف نهضة استطاعت تحقيق إنجازات في مجالات مختلفة، كالرقمنة على سبيل المثال لا الحصر، والتي يمكن الاستفادة منها ومحاكاتها وتبادل الخبرات والتجارب في مختلف المجالات خدمة لمصالح البلدين، كما أن الجزائر تعرف هي الأخرى ديناميكية اقتصادية واعدة في ظل مناخ أعمال محفز وبرنامج رئاسي طموح، يتيح فرصا متنوعة للمتعاملين السعوديين في مختلف القطاعات، لترجمة جودة العلاقات السياسية في مستويات شراكة اقتصادية متقدمة، على حد وصفه.