أسَّست فرنسا إمبراطوريةً ضخمةً في إفريقيا، عبر حملةٍ واسعةٍ من الاحتلال لأجزاءٍ كبيرةٍ منها، ووسَّعت من نطاق نفوذها الهائل فيها، ونوَّعت من أساليب استعمارها للحيلولة دون حصول دولها عن كامل استقلالها، واتَّبعت استراتيجياتٍ من الأبوية والفوقية والاستغلال لمحاولة تأبيد بقائها فيها، وخاضت معارك وجودية كبيرةً من أجل بسط هيمنتها العسكرية والثقافية عليها، متجاوزةً حدود التواضع والتوازن والمسؤولية في العلاقة معها، من دون الاعتراف بأخطائها أو التعويض عن جرائمها، رافضةً أيَّ منافسةٍ إستراتيجيةٍ من القوى الإقليمية والدولية لها.
إذا كان الرئيس الفرنسي الصَّغير “ماكرون” قد دشَّن عهدته الرئاسية الأولى سنة 2018م بقوله: “إفريقيا هي مستقبل فرنسا”، معتقدًا أنها مفتاح القوة النَّاعمة لبقاء عظمتها، فقد تحوَّلت القمم الفرنسية– الإفريقية إلى محاكماتٍ قاسيةٍ وغير متوقَّعةٍ لها على ماضيها الاستعماري، وعلى جرائمها في حقِّ الأجيال بدعم الديكتاتوريات المتعاقبة، وتورُّطِها في استنزاف الثروات الطبيعية، وتسبُّبها في التخلُّف والتبعية المزمنة لها، عبر غرقها في غطرسة الماضي، وعنصرية الحاضر، ومحاولات تجديد مظاهر الاستعمار الجديد للمستقبل، وهي التي صنعت ماضي أغلب هذه الدول الإفريقية وفرض هيمنتها عليها، فقد فرضت لغتها الفرنسية على 27 دولة من أصل 54 بما سُمِّي “مجتمع الفرنكوفونية”.
فرضت فرنسا لغتها على 27 دولة من أصل 54 بما سُمِّي “مجتمع الفرنكوفونية”، وبالرغم من مرور 06 عقود على الاستقلال الشَّكلي والملغَّم لهذه الدول الإفريقية إلا أنَّ فرنسا اشترطت البقاء الأبدي، بامتلاك الحق الشَّرعي للحصول على المواد الخام، واحتكار الأنشطة الأمنية والعسكرية، والتحكُّم في الأصول الاقتصادية، والحصرية في إدارة شبكة الخدمات الرئيسية كالكهرباء والماء والاتصالات، وضخِّ 50 بالمائة من الاحتياطيات لديها، وفرض “الفرنك الإفريقي” على بعض دولها، وطباعة عملات 12 دولة من طرف البنك المركزي الفرنسي، والسيطرة الكلية على القرار السِّياسي والاقتصادي والثقافي…
وبالرغم من مرور ستة عقود على الاستقلال الشَّكلي والملغَّم لهذه الدول الإفريقية إلا أنَّ فرنسا اشترطت البقاء الأبدي، بامتلاك الحق الشَّرعي للحصول على المواد الخام، واحتكار الأنشطة الأمنية والعسكرية، والتحكُّم في الأصول الاقتصادية، والحصرية في إدارة شبكة الخدمات الرئيسية كالكهرباء والماء والاتصالات، وضخِّ 50 بالمائة من الاحتياطيات لديها، وفرض “الفرنك الإفريقي” على بعض دولها، وطباعة عملات 12 دولة من طرف البنك المركزي الفرنسي، والسيطرة الكلية على القرار السِّياسي والاقتصادي والثقافي، وفرض النظام الرئاسي للتحكُّم في هذه البلدان عبر الصلاحيات المطلقة للرؤساء، بعيدًا عن رقابة مؤسَّسات الدولة الأخرى، ودعم الانقلابات العسكرية وتزوير الانتخابات والتدخُّلات العسكرية بما يتوافق مع مصالحها.
إلا أنَّ ما يحدث الآن في إفريقيا ضدَّ فرنسا، وآخرها الإطاحة برئيس النيجر “محمد بازوم” يوم 26 جويلية 2023م، وهي آخر المعاقل الفرنسية نفوذًا، والتي تحتلُّ المركز الرابع عالميًّا في إنتاج اليورانيوم، وتغطي 35 بالمائة من حاجات المحطات النووية الفرنسية، والمولِّدة لحوالي 70 بالمائة من الكهرباء لديها، ما هو إلاَّ تجلِّيٌّ من تجلِّيات انتفاضة إفريقيا المعاصرة ضدَّها، للانعتاق الكلِّي من هيمنتها، والثورة من أجل الحصول على الاستقلال التَّام والمؤجَّل لعقودٍ عنها، وهو انسجامٌ مع الصيرورة التاريخية التي وصلت إليها فرنسا في تراجع حضورها في إفريقيا، وانتكاسة مكانتها في العالم، وما “أزمة الغواصات” مع استراليا، وعجزها عن حلِّ أزمة لبنان –الذي يقف على حافة الإفلاس والانهيار- إلا مظهرٌ من مظاهر ذلك الأفول الفرنسي في أكثر من منطقةٍ في العالم.
المنافسون الجُدُد لفرنسا في إفريقيا:
لم تعد فرنسا اللاَّعب الوحيد على السَّاحة الإفريقية، فقد دخل على الخطِّ لاعبون جُدُدٌ ومن الوزن الثقيل، غيَّروا من نظرة الأفارقة إليها كقوةٍ استعمارية ساهمت في إحكام القبضة على ماضيهم، وتقاوم من أجل الهيمنة على حاضرهم، والإصرار على البقاء على جُثَثهم في المستقبل، ومنهم:
* النُّفوذ النَّاعم للصِّين: تصبُّ الأرقام في صالح “الصِّين”، إذ بلغ تبادلها التجاري مع الدول الإفريقية نحو 254 مليار دولار سنة 2021م، وهو الرقم الذي يتجاوز حجم فرنسا وأمريكا والهند مجتمعين، وتكون بذلك المستثمِر الأول في القارة، وذلك بالنُّفوذ النَّاعم عبر مشروع “طريق الحرير”، الذي يرسِّخ الوجود الصِّيني على الأرض بواسطة مشروعات البُنى التَّحتية والمطارات والموانئ والمناطق الصِّناعية.
* الحضور الأمني والعسكري لروسيا: لقد عادت روسيا بقوة إلى القارة الإفريقية تجرُّ معها إرث “الاتحاد السُّوفياتي” الذي ساهم في تحرُّر العديد من البلدان الإفريقية من الاستعمار الفرنسي والهيمنة الغربية، فهي الآن لاعبٌ أساسيٌّ -عبر شركة فاغنر الأمنية- في 11 دولةً إفريقيةً، منها: ليبيا والسُّودان ومالي وإفريقيا الوسطى وأنغولا وغينيا وموزمبيق، وأخيرًا النيجر، وذلك بتقديم البديل العسكري والأمني الأكثر موثوقية من فرنسا، عبر التسليح والتدريب العسكري للجيوش والقوات الخاصة والحرس الرئاسي لهذه البلدان، وقد كان انعقادُ القمَّة الروسية– الإفريقية سنة 2019م منعطفًا مهمًّا في هذه العلاقة، وذلك بحضور رؤساء وممثلي البلدان الإفريقية الـ54 جميعا، بالتزاوج بين النُّفوذ الاقتصادي والوجود العسكري، وهي القمة التي عُقدت أيضًا نهاية جويلية 2023م بمشاركة نحو 50 دولة إفريقية، رغم الضغوط الغربية الرهيبة من أجل إفشالها.
* نضج النُّفوذ التركي: تطوَّر الدور التركي في إفريقيا، وخاصة بعد انعقاد قمة التعاون التركي– الإفريقي سنة 2008م بحضور 50 دولة، ثم عقدها سنة 2014م بغانا، وسنة 2021م بتركيا، والتي مثَّلت نقلةً نوعية لهذا النُّضج، فقد زادت من عدد سفاراتها من 12 سفارة سنة 2002م إلى 43 سفارة سنة 2021م، كما وصلت الخطوط الجوية التركية إلى 40 بلدًا إفريقيًّا بنحو 61 خطًّا، وبلغت زيارات الرئيس التركي “أردوغان” إلى إفريقيا نحو 30 بلدًا، ونمت تجارتها معها خلال 20 سنة، من 03 مليار دولار إلى 25 مليار دولار، وبلغت مشاريع المقاولات التركية 71 مليار دولار في عموم القارة، وأنشأت تركيا مجالس أعمال مشتركة مع 45 دولة إفريقية.
وقد زاوجت بين أدوات النُّفوذ النَّاعم عبر الديبلوماسية النشطة والمساعدات الإنسانية والمِنح الدراسية والبرامج الثقافية وبين النفوذ الصَّلب، والذي يشمل صفقات الأسلحة وبرامج التدريب الأمني والتواجد العسكري، وقد بلغت مكاتبها العسكرية 37 مكتبًا، وزادت من صادراتها العسكرية سنة 2021م بنسبة 700 بالمائة.
* التمدُّد الإيراني: في دراسةٍ بحثيةٍ للأستاذة منّه الله إبراهيم عبد الرحمن محمد –باحثة ماجستير بكلية الدراسات الإفريقية بجامعة القاهرة- مصر، تحت عنوان: “السياسة الخارجية الإيرانية تجاه إفريقيا”، الصادرة عن المركز الديمقراطي العربي في جانفي 2023م، تؤكد أنَّ إفريقيا في التصوُّر السِّياسي الإيراني أرضٌ خصبةٌ للنشاطات السِّياسية والاقتصادية وحتى العسكرية، وذلك بعد أن أدركت القيادة الإيرانية أهمية القارة الإفريقية، نظرًا لموقعها الجغرافي المجاور للمنطقة العربية، وثقلها السِّياسي، وأهميتها الطاقوية، فأسَّست لنفسها موقعًا هامًّا في القارة السَّمراء، سمح لها بكسب تأييد عددٍ من الدول الإفريقية لمشروعها النووي، وتشكيل تحالفات في مواجهة النفوذ الغربي، وكسر الحصار الاقتصادي المفروض عليها، وقد تمَّ تحديد الأهداف التي سعت من خلال ترسيخ علاقاتها مع الدول الإفريقية، وهي: التشييع السِّياسي، وحشد الدَّعم لبرنامجها النووي، إذ تمثِّل الدول الإفريقية ثلث أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة والمؤسسات والهيئات التابعة لها، وضمان مصادر مستقرة من اليورانيوم لدعم برنامجها النووي، إذ تحوز إفريقيا على 30 بالمائة منه في العالم، وفكُّ الحصار وتجاوز العقوبات المفروضة عليها، وتعزيز النُّفوذ السِّياسى والبحث عن شركاء جدد.
لقد ساهم حضور هذه الدول ذات الوزن الثقيل في المنافسة الشَّرسة لفرنسا في العمق الإفريقي، وتأليب الأفارقة على السِّياسات الاستعمارية الغربية عمومًا والفرنسية خصوصًا، ومع أنَّ هذه الدول لا تمارس عملاً خيريًّا مجانيًّا لصالح إفريقيا -فهي متنافسةٌ أيضًا من أجل مصالحها بالدرجة الأولى- إلاَّ أنَّها تختلف عن فرنسا في مسارها الاستعماري الفجِّ، وفي أساليبها التقليدية في الهيمنة والاستغلال، التي جعلت أوراق نفوذها تتآكل، رغم محاولات الاستعراض الديبلوماسي في إثبات الذَّات، والتمسُّك بالإرث الماضوي المثخن بالأوهام.
إنَّ إفريقيا ليست هي مستقبل فرنسا، فهناك مستقبلٌ مختلفٌ لها في ظلِّ تغيُّر الخارطة التقليدية لموازين القوة في العالم، وحالة الاستقطاب بين القوى الكبرى اتجاه إفريقيا، ومظاهر الحضور والتأثير فيها، وهي لحظةٌ تاريخيةٌ يمكن استثمارها في مواجهة النُّفوذ الفرنسي والغربي، واستكمال مسار الاستقلال والسِّيادة التامَّة، والحذر الشَّديد من فخِّ الانتقال من استعمارٍ تقليدي إلى استعمارٍ جديد، يُبقي القارةَ رهينة الأجندات الخارجية على حساب مصالحها الحقيقية.
تقييم:
0
0
مشاركة:
التعليق على الموضوع
لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...
...........................................
=== إضافة تعليق جديد ===
في موقع خبار بلادي نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين خدماتنا. وبالضغط على OK، فإنك توافق على ذلك، ولمزيد من المعلومات، يُرجى الاطلاع على سياسة الخصوصية.