على بصيرة جمعية العلماء: تسعة عقود من العطاء والأداء
أ.د. عبد الرزاق قسوم
رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين/
عندما يمتزج عمق التاريخ بعبق الجغرافيا، وعندما يتعانق جلال الإنسان مع جمال المكان، عندها تنتج معادلة وطنية هي معادلة تحقيق حرية الإرادة، باستعادة السيادة، وشحذ عزيمة القيادة بتأسيس جمعية الأبطال والريادة.ذلك هو حال الجزائر مع الخامس من يوليو هذه السنة، الذي يصادف التاسع عشر من ذي الحجة عام 1444 هـ، حيث تحتفل الجزائر بمناسبتين عزيزتين في تاريخها، هما الذكرى الستون لاستعادة الاستقلال الوطني، وذكرى انقضاء خمسة وتسعين سنة على تأسيس جمعية العلماء، بالتقويم الهجري.
حدثان يضربان بعمق في ذاكرة الوطن لأن لكل منهما بصمة خالدة في حياة الأمة.
فاستقلال الجزائر الذي تحققت عودته في الخامس من يوليو عام 1962، يمثل، انبعاث الوطن الجزائري بين الأمم بعد جهاد طويل صبغ بالدمع والدم.
وبالمقابل هناك ذكرى ميلاد خير جمعية أخرجت للناس في الجزائر، وهي جمعية العلماء التي تأسست في 17 من ذي الحجة من عام 1349 هـ الذي يصادف هذه السنة 17 ذي الحجة عام 1444 هـ، الموافق للخامس من يوليو 2023 م.
ويهمنا والجزائر تعزف اليوم أناشيد النصر، بكل اعتزاز وفخر، وفاء للذين ضحوا بأغلى ما يملك الإنسان وهو العمر، يهمنا أن نسلط الضوء، على الحدث الوطني المواكب لهذا التحول المصيري، وهو ميلاد جمعية العلماء.
فالشباب الذي يحتفل بذكرى استعادة الاستقلال، من حقه علينا أن نعرفه، بالإعداد الذي سبق تحقيق النصر، فنسلط الضوء على الذين ساهموا في وضع أسس البناء، وعملوا على توعية الإنسان للقيام بعملية التشييد والإعلاء، من الوطنيين الشرفاء.
ويتصدر هؤلاء كوكبة العلماء، الذين خاضوا معركة تحرير العقول، ضد مختلف الأعداء حتى أنتجوا لنا جيل نوفمبر من الأصفياء النبلاء، الذين خاضوا الجهاد، باسم الإسلام الذي حرر المستضعفين والأرقاء.
إن جمعية العلماء، تأتي في طليعة الوطنيين النبلاء، فهي مكون أساسي من مكونات شعبنا الجزائري سليل الصلحاء الأصلاء.
خمسة وتسعون سنة انقضت منذ أذنت جمعية العلماء في الناس بشعارها الخالد، فأيقظت الأمة من سباتها وأحيتها بعد غفلتها ومماتها، فبعثتها في رحلة إلى الحياة بعد ذبول، وأعادتها إلى ذاتها الحضارية بعد ذهول.
ولئن أدار بعضهم ظهره لجمعية العلماء فتنكروا لأصول وفروع الأجداد والأباء، وفرضوا عليها التهميش والإقصاء، وتجفيف المنابع وسوء العطاء، فإن ذلك لم يزدها إلا صمودا وإباء، وعطاء، والتحاما بالشعب في تلاحم وإخاء.
إن أم الجمعيات لا يخرجها عن وقارها لغو اللاغين، ولا ثغاء المنسلين، ولا زعانف المرجفين، بل هي تواجه كل أولئك بالحق المبين، والعمل القائم على العلم المتين، والعقل الرصين.
أحدثت جمعية العلماء، ولا تزال، صدمات كهربائية لإيقاظ بعض العقول من الغيبوبة، وإعادتها إلى الذات الحقيقية المطلوبة.
إنها تعمل على تحصين الذات ضد الغزو الثقافي والتكنولوجي اللذين يوظفان لإشاعة داء فقد المناعة الوطنية، ونشر المثلية والإباحية، وأنواع الانحلال الخلقية.
ذلك إن جمعية العلماء تمثل بحق الزعامة العلمية الدينية، في مقابل فشل الزعامة السياسية الحزبية، فصارت هي المرجعية الدينية الوطنية.
فمن حق جمعية العلماء، على المخلصين من أبناء الجزائر، أن يأتمنوها على الثوابت الوطنية المهددة بالزوال، فهي التي أقامت لثوابت الإسلام والعربية والجزائر، دعائم، هي أخوة الإسلام لبناء الوطن، والعلم وسيلة للرقي بالعلماء، والإحياء الحضاري كمقوم أساسي لممارسة المواطنة.
ليث شعري!، إذا كان من خصائص الأمة العناية بشبابها الذي هو الدم الساري في عروقها، فإن من المنطقي أن يصان هذا الدم من كل أسباب التلوث، وهي كثيرة.
وكما يقول عالم الجمعية ومؤرخها الشيخ مبارك الميلي فإن من خصائص العلماء المجاهدين علم في مضاء وذكاء، وعمل في ثبات عزيمة، وسيرة في علو همة.
وهذا ما ظل علماء الجمعية يتميزون به، وهو ما أكسبهم ثقة الأمة فيهم، وإنصاف التاريخ لهم، وتخليد الأعمال لمآثرهم.
فمدارسها بأصوات القرآن مرفوعة، وكلمتها في المحافل مسموعة، وإنجازاتها في صحائف الأيام مطبوعة.
وينطبق على علمائها قول الإمام الحسن البصري:
من لم يكن كلامه حكمة فهو لغو
ومن لم يكن سكوته تفكرا، فهو سهو
ومن لم يكن نظره اعتبارا فهو لهو
هذه هي أعمال جمعية العلماء الناطقة بالحكمة والموعظة الحسنة، ولئن كانت تسعة عقود في عمر الإنسان تمثل الشيخوخة وبلوغ أرذل العمر، فإن التسعين في عمر جمعية العلماء، هي السمو والعلو، والإشعاع والإبداع.
فسلام على جمعية العلماء في ذكرى ميلادها الخامس والتسعين، وهي تواصل بفضل أبنائها وبناتها المخلصين، جهاد الصالحين المصلحين، لن يثنيها عن ذلك تثبيط المثبطين، أو نعيق الناعقين، أو إرجاف المرجفين.. ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ﴾ [سورة الرعد، الآية: 17]
فالمجد والخلود لشهداء السلاح ولشهداء الكلمة، ولمجاهدي الحراب، ومجاهدي الخطاب.
﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ﴾ [سورة الرعد، الآية: 29]
فإلى مزيد من الأداء، وإلى مزيد من العطاء.
تقييم:
0
0
مشاركة:
التعليق على الموضوع
لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...
...........................................
=== إضافة تعليق جديد ===
في موقع خبار بلادي نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين خدماتنا. وبالضغط على OK، فإنك توافق على ذلك، ولمزيد من المعلومات، يُرجى الاطلاع على سياسة الخصوصية.