إن ما بيننا، وبين فرنسا الاستعمارية أنهار من دماء الشهداء لن تجف، وأوزار من عناء الأبرياء لن تخِف. وركام من بلاء المظلومين لن يكف. أفبعد هذا يطالبنا الفرنسيون الاستعماريون بأن ننسى؟ فما لهؤلاء الفرنسيين لا يكادون يفقهون تاريخا؟
إنهم يستغبون ذاكرتنا، ويستنقصون مفكرتنا، ويعتدون من جديد على هويتنا وشخصيتنا، ويأتي الفرنسي بعد ذلك كله، ليطلب منا أن ندوس على مقومات وحدتنا.
ماذا يريد؟ لعله قد جاء يبني ما انهدم
فمعاهدات الأمس قد نسخت وقد طمست بدم
إن كان قد أفنى أخي فكأنه مني انتقم
وهو الذي خان العهود بغدره ورمى القيم
فلسوف أبطش بطشه البطل العنيد لمن ظُلِم
قولوا له، أن الدماء تسيل من جسمي الجريح
قولوا له، أن الدموع تذوب من جفني القريح
قولوا له، وهو الذي لا يقبل القول الصريح
إنا حلفنا لن نذل لغاشم أو مستبيح
وغدا تذوب بعزمنا، هذه القذائف والحُمَمْ.
إن الذاكرة لا تُمحى، وإن الصفحة لن تُطوى، فما نسجته فرنسا الاستعمارية، من مآس لا تزال آثارها مرسومة في جسم الجزائريين الأحرار، وما خلفته قنابلها على القرى، والمشاتي، والقفار، لهو ناطق بأسوإ أنواع الدمار.
نقول هذا، ونترك لدولتنا حرية التعامل مع الدولة الفرنسية غير الاستعمارية التي تربطنا بها معاهدات، تختلف أهميتها من حيث الإنصاف والإجحاف، فتلك تحكمها القوانين والأعراف.
ويطالبوننا، بجرح التاريخ، وقطع الشماريخ والتنكر لشهادة شاعر الثورة العملاق، والتعامل معه بلغة النفاق، وطعن ظهور شهدائنا، وضحايانا، لصالح شذاذ الآفاق.
إن قصة النشيد الوطني الذي كتب في دهاليز زنزانات بربروس، وصار اليوم يتلى، ويتلألأ نوره، في ضوء الاستقلال وملأ الضمائر والنفوس، إن هذا النشيد، هو أمانة الجهاد في أعناقنا، وذمة العلماء في ضمائرنا، وعهد الشهداء في ذاكرتنا، فلئن مزقناه، أو بترناه، إنا إذن لخائنون.
ما يجب أن يدركه الجميع، أن ثورة فرنسا علينا اليوم، ليست من أجل النشيد، ولكنها ثورة، تستهدف مجدنا التليد، ومعتقدنا العتيد، وموقفنا السديد.
وانظروا إلى المواقف المختلفة التي تتخذ ضد مبادئنا، ومواقفنا، لتدركوا أية فرنسا هذه التي تواجهنا، وهل هي فرنسا الحرية، والعدالة والمساواة، أم هي فرنسا ذات التوجهات التي رسمها ماسو، وبيجار، وباقي الجنرالات؟
نريد لفرنسا اليوم أن تتحرر هي أيضا من ذهنية الجنرالات، وعقدة التعالي على المستعمرات، لنتعامل معها تعامل الند للند، فتكف عن سياسة « فرق تسد» والتدخل في ما ليس لها فيه يد.
يجب أن يتبرأ الفرنسيون من ماضيهم الاستعماري، وحاضرهم التوسعي الإنحشاري، فيكفوا عن التدخل في شؤوننا، وممالئة أعدائنا وخصومنا، والاعتذار عما ألحقوه من ضرر بعقولنا، وحقولنا.
فالجراح في عطب ذاكراتنا لا تعد ولا تحصى، وجرائم العدوان على مقومات شخصيتنا، في الجامع والجامعة، وفي حقول الزيت، وشموع البيت لا يمكن أن تنسى.
فقد هدمت جوامعنا، وقصفت صوامعنا، وأحرقت مكتباتنا، وشوهت جامعاتنا، فجاءتنا بالراهب الإسلاموفوبي، وبالمعلم الأخلاقوفوبي، لتصنع منا مجتمعا فاقدا للهوية، وكافرا بالعقيدة الإسلامية، وخائنا للفطرة الوطنية.
هذا –إذن- عن فرنسا الاستعمارية في طبعتيها القديمة والجديدة. فماذا عن جزائرنا الجديدة؟ والنزوع نحو الوجهة الرشيدة؟
هل تكمن مهمتنا في مجرد إثبات فقرة في النشيد الوطني؟ إن تبعات ذلك أهم وأعظم.
نحن نتوق إلى محو آثار العدوان من ألسنتنا، ومن مظاهر محيطنا، ومن عناوين محلاتنا، ومن مناهج مدارسنا وجامعاتنا.
إن تحصين الذات ضد داء فقد المناعة الوطنية، والعقدية، والإيديولوجية لهو أولوية الأولويات، بل هو الضامن لما هو آت.
فيا بني وطني إن الاستعمار شيطان كما يقول الإمام محمد البشير الإبراهيمي، وإن الشيطان لكم عدو، فاتخذوه عدوا، كما يقول الله سبحانه وتعالى.
فحاربوا –يا بني وطني- ذاكرة النسيان في نفوسكم، وعالجوا هذه الآفة بما يجب أن تعالج به، وهو العودة إلى الذات بكل أبعادها، ونشدان الوحدة الوطنية بكل متطلباتها، فلا يغرنكم أي ناعق، ولا يخدعنكم أي فاسق.
فالوطن أمانة في ضمير كل مواطن، وفي ذمة كل مسؤول، فصونوا الأمانة واحفظوا الذمة، وقولوا واعملوا بسلوك واحد وصوت واحد، يا فرنسا… كيف ننسى، ونحن أكرم من نفسك نفسا؟
يا فرنسا… كيف ننسى؟
2023-06-26
أ.د. عبد الرزاق قسوم رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين/
تقييم:
0
0
مشاركة:
التعليق على الموضوع
لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...
...........................................
=== إضافة تعليق جديد ===
في موقع خبار بلادي نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين خدماتنا. وبالضغط على OK، فإنك توافق على ذلك، ولمزيد من المعلومات، يُرجى الاطلاع على سياسة الخصوصية.