لحظة الحقيقة!
عندما ننظر بعين البصيرة إلى أحوالنا في هذه الدّنيا، من خلال الهموم التي نحملها والأولويات التي نهتمّ بها، ندرك أنّ الدّنيا قد تربّعت على قلوبنا فأقستها وأثقلت سيرها إلى الله والدّار الآخرة.. نسير بأعمارنا سيرا سريعا إلى مآلنا ومصيرنا ونقترب من موعد الحساب بين يدي الله، لكنّ سير قلوبنا إلى الله بطيء، إلا من رحم الله منّا.. أعطينا الدّنيا فوق ما تستحقّ، فتملّكتنا الهموم والغموم والمخاوف، وتنافسنا في الدّنيا تنافسا محموما وسرت بيننا العداوة والبغضاء لأجلها، فلا يكاد يوجد بيت -إلا ما عصم الله- إلا ودبّ فيه الخلاف بسبب ميراث أو أرض أو مسكن.
الدّنيا التي نقرأ في مواضع كثيرة من كتاب ربّنا أنّها متاع الغرور وأنّها لعب ولهو وزينة فانية ومتاع قليل وعرض زائل، هذه الدّنيا أصبحت الهمّ الأوّل والأكبر في حياتنا، إلا من عصم الله منّا، وأصبحت أموالها ومساكنها ومراكبها وأراضيها هي ما يملأ عيوننا ويأسر قلوبنا.. لسان حال من جمع الكثير منها: ((إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي))، ولسان حال من لم يبلغ مناه منها: ((يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)).
لقد أغشى الشّيطان على أبصارنا فأصبحنا نبصر المتاع الزّائل على غير حقيقته، ونراه أكبر من حجمه.. وهي الغشاوة التي سيأتي على كلّ واحد منّا يوم تكشف فيه عن بصره ليرى الأشياء على حقيقتها.. عندما ينزل به ملك الموت من غير ميعاد ليقبض روحه، يدرك كم كان مغرورا في هذه الدّنيا ويرى كلّ شيء على حقيقته وبحجمه؛ يرى كم هو حقير أمر المال الذي ألهاه عن ذكر الله وعن الصّلاة، وكم هو هيّن أمر المنصب الذي شغله عن برّ والديه وتربية أبنائه، ويرى كم هي تافهة تلك الأرض التي عادى لأجلها أخاه وقريبه.
حينما يستوفي كلّ واحد منّا الأنفاس التي كتبت له، ويستنفد ما كتب الله له من أيام عمره، ويوضع وحيدا في قبره، ويُصفّ عليه اللّبن ويهال عليه التراب، ويَترك خلفه كلّ ما وعى وجمع، ويتولّى عنه أبناؤه وإخوته وأقاربه وأصدقاؤه بعد دقائق قليلة من دفنه، ليكمل كلٌّ منهم حياته كأنّ شيئا لم يكن.. حينها يدرك الحقيقة التي طالما تحاشى التفكير فيها.
هناك في الحفرة الضيّقة بعيداً عن صخب الحياة وموازينها المائلة، يعرف العبد قيمته الحقيقية، ويدرك الوزن الحقيقي لكلّ شيء؛ يدرك قيمة أيامه التي ذهبت سدىً، ويكتشف مدى تفاهة المعارك التي خاضها واستهلكت منه وقته وعمره وأحرقت أعصابه لأجل متاع فان.. يدرك بعد فوات الأوان أنّه أخطأ كثيرا في ترتيب أولوياته، وأنّه قد عظّم أشياء تافهة ما كان ينبغي له أن يعظّمها، واستهان بأشياء مهمّة ما كان ينبغي له أن يستهين بها.. يعرف خطورة الكلمات التي كان يلفظها لسانه ولا يلقي لها بالا والنظرات التي كان يقلّبها ويستصغر شأنها.. ويدرك في المقابل قيمة أعمال صالحة كان يظنّها صغيرة؛ يدرك قيمة الركعة والسّجدة والآية من كتاب الله وقيمة التسبيحة والتحميدة والتهليلة، وقيمة الخطوة إلى بيت الله، وقيمة الكلمة الطيبة، وقيمة الابتسامة والمسحة على رأس اليتيم.. يدرك كم كان مغرورا حينما كانت خبزة الأبناء أهمّ بالنّسبة إليه من دينهم وصلاتهم بل وأهمّ بالنسبة إليه من دينه وصلاته.. ستدرك المرأة أنّ المظاهر الفانية التي أخذت منها حياتها وأوقاتها تافهة وحقيرة ولم تكن تستحقّ أن تتهاون لأجلها في حجابها وتضيّع لأجلها صلاتها.. يدرك العبد أنّ أمواله التي أنفقها رياءً وسمعة في الأعراس وجلسات القيل والقال وفي الكماليات قد ذهبت سدى ولم يبق له إلا تلك الدنانير القليلة التي أنفقها لبناء بيوت الله وإعانة المحتاجين.
يسقط في يده عندما يدرك أنّ عمره القصير استهلك في الغثاء والتفاهات، وأنّه غدا فقيرا معدما من الحسنات، ولا أحد يومها يتصدّق عليه بحسنة واحدة.. يدرك قيمة أوقات الفراغ الكثيرة التي كان يحرقها في السخافات وفي القيل والقال والانشغال بهذا وذاك.. هناك في ظلمة القبر يعرف الحقيقة، ويتمنّى لو يمنح فرصة أخرى ليعيش حياة أخرى مختلفة ولو ليوم واحد، لكن هيهات. فات الأوان، يقول بلسان المقال: ((رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْت))، فيأتيه الجواب: ((أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِير)).. كم من نذير أتاه ليفيق ويراجع نفسه ولكنّه كان يكابر ويصرّ على حاله.. مات من أقاربه وأصدقائه من مات وحضر جنازاتهم ورأى قبورهم ومصارعهم، وما ارعوى، مرض مرّة بعد مرّة وما اتّعظ.. خطّ الشيب خطوطه في رأسه ووجهه فما ارتدع.. حتّى أصبح بصره حديدا.
لقد أنذرنا الحبيب الشّفيق -صلّى الله عليه وسلّم- لحظة الحقيقة التي ستأتي على كلّ منّا في قبره، حين مرّ -عليه الصّلاة والسّلام- يوما على قبر دُفِن حديثًا، فقال: “ركعتان خفيفتان مما تحقرون وتَنَفَّلُون، يزيدهما هذا في عمله أحبُّ إليه من بقية دنياكم” (صحيح الجامع).
ما دام العبد يسعى ويُمدّ أياما في عمره، فإنّ الفرصة لا تزال سانحة للعودة والإصلاح.. الحياة الدّنيا ليس بالضّرورة أن تكون هي الهمّ الأكبر، فيمكن أن تكون همّا ثانيا بعد همّ الدّار الباقية، ويمكن أن تتحوّل من دار عناء وشقاء وهمّ وغمّ، إلى دارٍ ينعم فيها القلب ويخفق بمحبّة الله.. الجسد لا يدوم له النّعيم في هذه الدّنيا، لكنّ القلب يمكن أن يمتلئ فرحا وسرورا وسعادة عندما يمتلئ بمحبّة الله -جلّ وعلا- وتعظيمه وإجلاله، فتنشغل الجوارح بطاعة الله والإقبال عليه وطلب رضاه.. يقول التابعيّ مالك بن دينار -رحمه الله-: “مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها”. قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: “محبة الله والأنس به والشوق إلى لقائه، والتنعم بذكره وطاعته”.. ويقول أحد الصّالحين: “إنه لتمر بي أوقات أقول فيها إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب”، ويقول آخر: “والله ما طابت الدنيا إلا بمحبة الله وطاعته، ولا الجنة إلا برؤيته ومشاهدته”.
لحظة الحقيقة!
سلطان بركاني
2023/07/15