لا خير في الأمّة ما لم توقّر علماءها!!
إننا في زمن غريب!، طغى فيه الإنسان طغيانا كبيرا!، [والطغيان هو مجاوزة الحد، فمن جاوز الحد في أي أمر من الأمور فقد طغى!]، ومن مظاهر الطُّغْوَانُ ومجاوزة الحد التي اقترفها كثير من الناس في زمننا البئيس: الجرأة على العلم والاختصاصات!، حيث صار يتكلم كل من شاء بما شاء، ويفصل في القضايا العويصة التي تعاركت فيها عقول العباقرة، ويرجح في المسائل المعقدة التي تلاطمت فيها أمواج قرائح الأئمة الكبار! بكل سذاجة وسطحية، ولكن بجرأة ووقاحة وجهل عريض!. يصحب ذلك تطاول على مقام العلماء، وحط من أقدارهم، وطعن فيهم، وتنفير منهم!.
وجرأة على مكانة العلماء وما ذلك إلا لظن السوء بأنهم استغنوا عن العلماء لما توفرت لديهم الكتب والمراجع ورقيا ورقميا: {كلا إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى}، ولكن هيهات هيهات!! فلو كانت درجة العلماء تدرك بتقليب أوراق الكتب لكان كل الناس علماء!، ولو كانت درجة العلماء تدرك بسماع الدروس والمشاهدة في (اليوتيوب) لكان كل الناس علماء!، بيد أن درجة العلماء درجة عزيزة لا ينالها كل من يطلبها، ولن يصل إليها من وصل إليها إلا على بحار من الصبر، وبحار من الجهد، وبحار من البذل والتضحية، وقبل ذلك ومعه وبعده التوفيق من الله تعالى.
أبادر فأقول: لقد ازدحمت ساحة العلم بكثير من الأدعياء، وبكثير ممن صُنعوا صناعة من دوائر مشبوهة تستغلهم لتبييض مشاريع فسادهم ومظالم استبدادهم، وبكثير ممن اقتحموا ساحة العلم تطلبا لوجاهة اجتماعية وتكسبا منها... إلخ، لكن هذا لا يعني غياب العلماء الصادقين عن الساحة، بل العجب حقا أن التطاول والتشويه والاعتداء إنما يتعرض له هؤلاء، الذين صدقوا ربهم، وصدقوا أمتهم، الذين صانوا أمانة العلم، وحملوا هموم الأمة، الذين قالوا كلمة الحق ولم يسكتوا عن الباطل، فذاقوا وبالا من الظلم: قتلا، وسجنا، ونفيا، وما وهنوا لما أصابهم وما ضعفوا.. ثم يأتي رويبضة لم يذق لذة العلم، وليس فيه نفع البتة يسب العلماء كلهم، ويتهمهم في نياتهم ومقاصدهم، ويصغر من شأنهم ويضع من أقدارهم.. وتراه ساكتا عن فساد المفسدين، وظلم المستبدين، وفواحش الفاسقين.. وبطلا على العلماء الربانيين!.
إن الله تبارك وتعالى رفع العلماء درجات، {يرفع اللهُ الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير}، وكثير منا يحطون من درجاتهم ظلما وعدوانا، يخالفون أمر الله، ويضادون قصده، ويعاندون حكمه. وإن الله تبارك وتعالى قرن شهادة العلماء بشهادته سبحانه وشهادة ملائكة قدسه، وكفى بهذا تكريما، وكفى بهذه مكانة ودرجة: {شهِد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم}، فالله عز شأنه جعل العلماء شهداء على الناس، والكثير منا رفض شهادتهم، وراح يشهد هو على العلماء، يزكي من يشاء ويذم من يشاء، يرفع من يشاء ويضع من يشاء، حتى وجد من يُدخل الجنة منهم من يشاء ويحرم منها من يشاء!.. وهذه هي الوقاحة والجرأة على لله تعالى ودينه.
إن الله تبارك وتعالى ما ذكر العلماء في كتابه إلا في سياق التكريم والتبجيل توجيها للمسلم وتربية: {وما يعلمُ تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب}، {لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما}، {ثم يوم القيامة يُخزيهم ويقول أين شركائي الذين كنتم تُشاقون فيهم قال الذين أوتوا العلم إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين}، {قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا}، {وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتُخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم}، {وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون}، {بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون}، {ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد}... والمسلم المطالب بقراءة القرآن الكريم وتلاوته وهو يقرأ هذه الآيات البيّنات يمتلىء قلبه توقيرا للعلماء وتبجيلا وتعظيما؛ لأن المؤمن الحق هو من يعظم ما عظم الله جل جلاله، ويكرم من أكرمه، ولا يعقل من مسلم أن يقرأ هذه الآيات ثم يتطاول على العلماء، ويقصر في حقهم، مهما كانت المسوغات (والمبررات).
إننا مهما اختلفنا فلن نختلف أن الأمة لن تعرف طريق الإصلاح والرقي والازدهار من غير العلم الذي يوجب الإسلام طلبه والعمل به والعمل على مقتضاه، كما في الأثر: “.. فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة.. ويلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء”. ولن يكون علم إلا بالعلماء، هم حملته ورعاته، وإذا أسقطنا الحامل سقط المحمول، ومن هنا نعرف أن بحار الجهل التي غرقنا فيها وأوحال التخلف التي غشيتنا إنما ابتلينا بها لم عصينا الله تعالى في العلماء فلم نعرف لهم حقهم وقدرهم ومكانتهم التي رفعهم الله إليها، وأسقطناهم فسقط العلم من حياتنا.. ولن يستقيم حال الأمة ما لم توقر العلماء وتعرف لهم مكانهم وأقدارهم، وليس هذا حكمي وقولي بل هو قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا»، «ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويجل كبيرنا، ويف لعالمنا» رواه أحمد وغيره. أي يعرف ويفي لعالمنا حقه وقدره ومكانته ودرجته التي رفعه الله تعالى إليها.
لا خير في الأمّة ما لم توقّر علماءها!!
اسلاميات 15 جولية 2023 (منذ 11 ساعة) الدكتور يوسف نواسة*
* إمام وأستاذ الشريعة بالمدرسة العليا للأساتذة