يقول الباري عزّ وجلّ: {ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربّانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون}. الرباني: من يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، بكلمات أو تصرفات يقوم بها، مستصحبا نيّة حسنة، فتعمل عملها وتستقر في النفوس.
ففي صيد الخاطر، يقول ابن الجوزي رحمه الله مبيّنا هذا المفهوم، ومعبّرا عن تأثره الشخصي بهذه القضية: ولقيت جماعة من علماء الحديث أحوالهم مختلفة، يتفاوتون في مقاديرهم في العلم، وكان أنفعهم لي في صحبته العامل منهم بعلمه، وإن كان غيره أعلم منه، ولقيت جماعة من علماء الحديث يحفظون ويعرفون، ولكنهم كانوا يتسامحون بغيبة يخرجونها مخرج جرح وتعديل، ويأخذون على قراءة الحديث أجرة ويسرعون بالجواب لئلا ينكسر الجاه وإن وقع الخطأ، ولقيت عبد الوهاب الأنماطي فكان على قانون السلف، لم يُسمع في مجلسه غِيبة، ولا كان يطلب أجرا على سماع الحديث، وكنت إذا قرأت عليه أحاديث الرقائق بكى واتصل بكاؤه، فكان وأنا صغير السن حينئذ يعمل بكاؤه في قلبي، ويبني قواعد الأدب في نفسي، وكان على سمت المشايخ الذين سمعنا أوصافهم في النقل، ولقيت الشيخ أبا منصور الجواليقي، فكان كثير الصمت، شديد التحري فيما يقول، متقنا محققا، وربما سئل عن المسألة الظاهرة التي يبادر بجوابها بعض غلمانه فيتوقف فيها حتى يتيقن، وكان كثير الصوم والصمت، فانتفعت برؤية هذين الرجلين أكثر من انتفاعي بغيرهما، ففهمت من هذه الحالة أن الدليل بالفعل أرشد من الدليل بالقول.
وهذا شيخنا الدكتور وهبة الزحيلي رحمه الله يحضر يومًا في كلية الشريعة بجامعة دمشق لإلقاء محاضرة، وعلامات الإرهاق والتعب بادية عليه، وقد كان بإمكانه ألا يحضر، جلس وبقي صامتا برهة من الزمن، ثم استأذننا في أن ينصرف! فتعجب الطلبة ورقوا لحاله، فانفجر أنفه بالرعاف لشدة ألمه وبكى ثم انصرف، لقد أعطانا يومها درسا عمليا في الانضباط، وعلو الهمة، وأشعر الطلبة بعظمة العلم الذي يتلقونه وأهميته. فعلماؤنا رحمهم الله ونفعنا بهم الذين عملوا بالعلم لا تزال سيرتهم تنقل عبر الأجيال، تؤثر في القريب والبعيد، والذي لم يشهد يقرأ هذه السير لينتفع بها.
إن المواقف التربوية من سير العلماء هو ما ينبغي أن نتطلبه ونؤكد على أهميته، وكيف يربي الإنسان نفسه، وكيف يأخذها بمجامع الإيمان والأدب والخلق والعلم، هذه المواقف ينبغي أن نتوقف عندها وأن نتمعن فيها، وهي كثيرة جدا، وبعضها مشهور معروف، فقد كان الإمام مالك رحمه الله من أشدّ الناس إجلالا لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، فعمّن اكتسب هذا؟ يقول رحمه الله وقد سئل عن أيوب السختياني: ما حدثتكم عن أحد إلا وأيوب أفضل منه، قال: وحج حجتين فكنت أرمقه فلا أسمع منه غير أنه إذا ذُكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى اخضل، فلما رأيت منه ما رأيت وإجلاله للنبي صلى الله عليه وسلم كتبت عنه. ويقول مصعب بن عبد الله: كان مالك إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يتغيّر لونه وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه، فقيل له يوما في ذلك، فقال: لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم عليّ ما ترون، لقد كنت أرى محمد بن المنكدر، وكان سيّد القراء، لا نكاد نسأله عن حديث أبدا إلا ويبكي حتى نرحمه، ولقد كنت أرى جعفر بن محمد، وكان كثير الدعابة والتبسم، فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم اصفر لونه، ولقد كنت آتي عامر بن عبد الله بن الزبير فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع، ولقد رأيت صفوان بن سليم وكان من المتعبّدين المجتهدين، فإذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى، فلا يزال يبكي حتى يقوم الناس عنه.
فانظر إلى العلم الذي تأخذ، واعرف قدره ومنزلته، فتعظيم نصوص الوحي والوقوف عندها وعدم الاعتراض عليها مبدأ مهم جدا في حياة المسلم، هذا المبدأ لو أُلقيت فيه محاضرات وخطب لا يكون مستقرا في النفوس كما لو صار مستقرا بمواقف وأحداث.. والله ولي التوفيق.
* إمام وأستاذ بجامعة العلوم الإسلامية – الجزائر1
تقييم:
0
0
مشاركة:
التعليق على الموضوع
لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...
...........................................
=== إضافة تعليق جديد ===
في موقع خبار بلادي نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين خدماتنا. وبالضغط على OK، فإنك توافق على ذلك، ولمزيد من المعلومات، يُرجى الاطلاع على سياسة الخصوصية.