قمة جدة، تأتي بعد مخاض عسير بدأ حتى قبل احتضان الجزائر للقمة الأخيرة، التي حُضّر لها طويلا لضمان نجاحها، خاصة وأنها كانت ستلتئم بعد أن كاد الجرح العربي يندمل إثر معاناة من التفرقة والتشرذم والصراعات وهذا على حساب الوحدة العربية والقضية الأم: القضية الفلسطينية.
تأتي قمة جدة إذن، لتتوج بعودة سورية إلى الجامعة العربية بعد مساع جزائرية ودبلوماسية متعددة العمل والاتجاهات، لم يكن يفصلها عن عودة سورية إلى الجامعة العربية إلا قليلٌ من العمل، تعزَّز لاحقا بمبادرة سعودية، بدأت في الواقع من بكين بعد عودة المياه إلى مجاريها مع إيران.
هذا ما كان يمثل حجر الزاوية في القضية السورية: الخلاف على عودة هذا البلد العربي المؤسِّس للجامعة من عدمه، كان مصدره في غير الجامعة العربية: كان في الواقع رهين رهانات جيوسياسية، شكَّل الثقل الأمريكي فيه “رمانة” التوازن في ميزان السلعة السياسية الأمنية في المنطقة برمَّتها، وفي العالم أجمع.
الاتفاق السعودي الإيراني، فجَّر كل الصواعق المرتبطة بقنبلة الشرق الأوسط ككل، وسهَّل تفكيك وإبطال سحر كل النفاثات في العُقد التي عملت على تسميم العلاقات العضوية والوظيفية للأمة برمتها.
التقارب السعودي الإيراني، ما كان ليكون لولا تعنت الإدارة الأمريكية خاصة منذ مجي الديمقراطيين والموقف الذي بنى عليه بايدن سياسته الخارجية في الشرق الأوسط، وبالذات مع السعودية. الاستفاقة المبكرة التي تبدو متأخرة ولكنها في الواقع ليست كذلك، فجّر صاعقَها ما بعد الأخير، الصراعُ الغربي – الروسي على خلفية ما تسميه روسيا “العملية الخاصة في أوكرانيا”، وما تلاه من اصطفاف محوري حول جوقة العم سام في واشنطن، وما زاد الطينَ بلة، صعودُ اليمين المتطرِّف في فلسطين المحتلة وتغوّل إدارة الاحتلال بعد موجة تطبيع انتهت بعدة دول إلى كامب ديفيد جديد.
الاستدارة الكبيرة لسياسة المملكة العربية السعودية في المنطقة، وموقفها المتوازن الواقعي والمنطقي من روسيا والصين، وبحثها في الأخير عن مصالحها بما يتماشى مع هويتها وثقافة شعوب المنطقة سواء في الخليج أو العالم العربي والإسلامي وزعامتها للأمة الإسلامية، جعلها تقف موقفا مستقلا غير منحاز لأحد، ولكنها بدت للغرب ولأمريكا وكأنما تتنصل من علاقة بيت الطاعة الذي استمرّ نحو عقدين، وهو ما لا يعجب الإدارة الأمريكية الحالية.
كانت القضية السورية تمثل خطا أحمر أمريكيًّا، لا يجب التعاطي معه إلا ضمن قانون “قيصر” الأحادي الجانب، وعدم التعامل مع النظام السوري الذي عملت على إسقاطه من الداخل عبر تجيير الانقلابات والثورات الملونة وفرض العقوبات لتسهيل “الفوضى الخنّاقة” والثورة على الأوضاع القائمة في كل زاوية لا تبشر بدين أمريكا والغرب الليبرالي الجديد.
عودة سورية اليوم إلى الجامعة العربية، بعد مؤامرات دُبِّرت بليل ونُفّذت بنهار، كانت الجزائر من الدول القليلة، وتكاد تكون الوحيدة عربيًّا التي بقيت محافظة على علاقاتها مع دمشق وتدافع عن كرسيِّ هذه الأخيرة بين العرب، رغم معارضة الكثير في الداخل العربي وخارجه، وإلى اليوم، رغم بداية تليين المواقف لدى البعض حفاظا على الزخم الذي أحدثته السعودية ومساعيها الدءوبة في إعادة رأب الصدع وإنجاح القمة العربية في جدة.
الجزائر التي دافعت عن عدم التدخُّل في الشؤون الداخلية للبلدان مهما كانت، يبدو الأمر موقفا كان أكثر حكمة وتبصُّرا، ولنا اليوم في السودان خير دليل على عدم الانجرار وراء التدخُّل والانحياز وفقط للشعب السوداني ولدولة السودان الشقيق.
تقييم:
0
0
مشاركة:
التعليق على الموضوع
لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...
...........................................
=== إضافة تعليق جديد ===
في موقع خبار بلادي نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين خدماتنا. وبالضغط على OK، فإنك توافق على ذلك، ولمزيد من المعلومات، يُرجى الاطلاع على سياسة الخصوصية.