أخرج الإمام الترمذي في سُنَنه عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أصْبعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ).
وَدَّعنا -قبل أيام-ضيفنا الكريم شهر رمضان بعد أَنْ مَرَّ بنا سريعاً، مَر َّبخيراته وبركاته، مضى من أعمارنا وهو شاهدٌ لنا أو علينا، شاهدٌ لِلْمُجِدِّ بصيامه وقيامه، وعلى المُقَصِّر بغفلته وإعراضه، ولا ندري هل سَنُدْرِكه مرة أخرى، أم يحول بيننا وبينه هَادِم اللَّذّات ومُفرّق الجماعات، فسلام الله على شهر الصيام والقيام.
غادرنا شهر رمضان المبارك، شهر القرآن والإيمان، فودَّعه المؤمنون بقلوب يملؤها الحزن العميق، ونفوسٍ يَعْتصرها الألم الشّديد على فِرَاقه وَبُعْدِه، والمؤمنون يتمنَّون أنْ يكون العام كلّه رمضان؛ لِمَا يعلمون فيه من الخير والبركة، وَغُفْران الذّنوب والرحمة، وصلاح القلوب والأعمال.
مَضَى شهر رمضان المبارك، وانْقَضى شهر الخيرات والبركات، والنّاس قِسمان: منهم مَنْ أطاع ربّه وخاف يوم الوعيد، فهنيئاً له، وله عند الله سبحانه وتعالى المزيد، ومنهم مَنْ عصى ربَّه، وقَصَّر في طاعته، وَنَسِي يوم الوعيد {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ}، هذا الصّنف من النّاس ندعو الله عزَّ وجلَّ لهم بالهداية والرّشاد، والتّوبة الصّادقة قبل الممات {يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ* إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بقَلْبٍ سَلِيمٍ}.
نفحات الخير لا تنقطع
لقد مضى هذا الشهر المبارك، فَسُنَّةُ الله تعالى في هذه الحياة الدنيا تعاقب الليل والنهار، وهكذا الحياة شهرٌ يعقبه شهر، وعام يخلفه عام، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ}، وهذه الأيام تَتَوالى علينا، كما قال الشاعر:
تَمُرُّ بنا الأيـّامُ تَتْرَى وإنَّمَـا نُسَاقُ إلى الآجالِ والعَيْنُ تَنْظُرُ
فلا عائدٌ ذاكَ الشَبابُ الذي مَضَى ولا زَائلٌ هذا المشيبُ المُكَدّرُ
إِنَّ نفحات الخير تأتينا نَفْحَةٌ بعد نَفْحَة، فلئن انقضى صيام شهر رمضان فإِنَّ المؤمن لن ينقطع عن عبادة الصيام، وإذا ما انتهينا من أداء الصلوات المفروضة تأتي النّوافل المُتعددة المذكورة في كُتُبِ الفقه، وَلَئِنْ أَدَّينا الزكاة المفروضة فإِنَّ أبواب الصدقات النوافل مفتوحة طيلة العام، وَلَئِنْ أدَّينا فريضة الحجّ فإنَّ أداء العُمرة مُيَسَّرٌ طيلة العام، وهكذا أبواب الخير والطاعات لا تنقطع، وهذا فضل من الله عزَّ وجلَّ ونعمة.
إِنَّ آخر يوم من رمضان يعقبه أول يوم من أَشْهُرِ الحجّ! وهذا معناه أَنّنا نخرج من فريضة الصّوم لندخل في فريضة الحج، فنحن ننتقل من عبادة إلى عبادة، وإن شئتَ فقل: نتقلَّبُ في العبادات، وذلك علامة واضحة على عُبوديتنا الكاملة لله عزَّ وجلَّ، وهو أمرٌ يحتاج إلى تَدَبّر وتفكر!.
كن ربانيًّا ولا تكن رمضانيًّا
من الأمور المُؤسفة أنّ بعض الناس يُقبلون على الله سبحانه وتعالى في رمضان، فإذا ما انتهى رمضان انتهى ما بينهم وبين الله عزَّ وجلَّ، فللأسف فَهُم بعد رمضان لا يعمرون المساجد، ولا يفتحون المصاحف، ولا تلهج ألسنتهم بالذّكر والتّسبيح، كأنَّما يُعْبَد الله سبحانه وتعالى في رمضان ولا يُعبد في شوال وسائر الشهور، مَنْ كان يعبد رمضان فإنّ رمضان قد رحل، ومن كان يعبد الله عزَّ وجلَّ فإنّ الله حيّ لا يموت، فقد ورد أنّ بعض السلف كانوا يقولون: بئس القوم قوم لا يعرفون الله إلاَّ في رمضان، كُن رَبَّانيًّا ولا تكن رمضانيًّا.
إِنَّ الواجب علينا أَنْ نُواظب على طاعة الله ورسوله في كلّ وقت، فالله عزَّ وجلَّ يُحِبّ من العمل أدومه وإن قلَّ، فإياك أخي القارئ أن تنقطع عن العبادة بعد رمضان، فهذا ما لا ينبغي، فليس من اللائق أن يكون لك في رمضان حظٌّ من التلاوة، ثم بعد ذلك تَهْجر المصحف إلى رمضان القادم، وأن يكون لك حظٌّ من المسجد، ثم بعد ذلك تنقطع عنه إلى رمضان القادم.
الثبــات على الطاعــات
رحل شهر رمضان المبارك، شهر الرحمة، شهر العِتْق والمغفرة، شهر الصيام والقيام وتلاوة القرآن، رحل رمضان بعد أن كُنَّا فيه من القوََّامين والصَّوَّامين التَّالين لكتاب الله الكريم؛ لذلك فمن واجبنا الثبات والمحافظة على ما كُنَّا فيه من صلاة وصيام وقيام وتلاوة ودعاء فلا ننقطع عن الأعمال الصالحة، والثبات على دين الله مطلبٌ أساسي لكل مسلم صادق يُريد سلوك الصّراط المستقيم بعزيمة وَرُشْد.
إِنَّ الثَّبات والاستمرار على الطاعة من أخلاق المؤمنين ، فقد كان نبينا – صلّى الله عليه وسلّم – يدعو قائلاً: (يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّت قَلْبِي عَلَى دِينِكَ)، ومن دعاء الرَّاسخين في العلم: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ}، أي لا تَزِيغ بعد الهداية، ولا تَنْحرف بعد الاستقامة، لذلك كان رسولنا- عليه الصلاة والسلام – يحثّ المسلمين على وجوب الاستمرار في الطاعات كما جاء في قوله – صلّى الله عليه وسلّم-: (أَحَبُّ الأَعمَالِ إِلى اللهِ تعالى أَدوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ).
وَمِمَّا يُؤْسف له أنّ بعض المسلمين الذين حافظوا على الطاعات خلال شهر رمضان المبارك من صلاة وصيام وصدقات وتلاوة للقرآن الكريم، قد هجروا المساجد وانقطعوا عن الطاعات، ومن المعلوم أَنَّ راحة المؤمن في طاعة ربّه، وأنّ عمله لا ينقضي حتى يأتيه أجله؛ لذا أمرنا الله سبحانه وتعالى بوجوب الثبات على الطاعات والخيرات: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}.
فإذا كان رمضان قد صَنَعَ من المسلم الصائم إنساناً نبيلاً عَفَّ اللسان ليس مُغتاباً ولا فاحشاً ولا بخيلاً ولا مُقَتِّراً، فما أَحْرانا بعد رمضان أَنْ نظلّ بأخلاق رمضان، طَلاَقة في الوجه، وابتسامة على الشّفاه، واستقبال طيّب وعطاء طيّب لوجه الله سبحانه وتعالى؛ لأنّه جزء من زكاة عمل الإنسان وهو الثروة الباقية التي أَنْعم الله عزَّ وجلَّ بها على مَن اخْتَصَّهم لقضاء حوائج الناس.
ما أَحْرَانا بعد رمضان أنْ نَسْتَحْضرَ قِيَمَ شهر رمضان المبارك وسلوكيّاته في كلّ ما نقوم به وفي سائر شهور العام ، فَمَغَانِم رمضان كثيرة يجب أنْ نُواصل بها المسيرة.
أخي القارئ الكريم: يجب علينا أنْ نعلمَ بأنّ أداء العبادات والطّاعات والمُسَارعة فيها ليست مقصورة على زمان معين أو موسم مُحَدّد من مواسم الخير ، بل عامة وشاملة في جميع الأوقات من حياة العبد، وإنما كانت تلك مِنَحًا إلهية وهبات رَبَّانية امتنَّ الله سبحانه وتعالى بها على عباده، لِيَسْتَكْثِروا من العبادات والطاعات وليتداركوا بعض ما فاتهم.
المداومة على فعل الخيرات
لقد اعتاد كثير من المسلمين أَنْ يَلْزَموا جانب التقوى وفعل الخيرات في شهر رمضان المبارك، ولكنّ هذه الظاهرة الإيمانية وللأسف تَنْعدم وَتَتَلاشى عند البعض بِمُجَرّد انقضاء هذا الشهر المبارك، فَلْيَعلم الجميع بأنّ الطَّاعات وفعل الخيرات والمُسَارعة فيها ليست مَقْصورة على شهر رمضان المبارك ومواسم الخير فحسب، بل إِنّها عامة في جميع الأوقات، فينبغي عليك أخي المسلم أَنْ تَحْرص على المُداومة على أعمال البرّ والخير وأَنْ تكون دائماً مِمّن يُسَارعون إلى فعل الخيرات ويدعون غيرهم إلى ذلك، وَلَئِنْ انتهت صدقة الفطر فهناك أبواب كثيرة للصّدقة والتَّطوع، فأعمال الخير والبرّ والإحسان مشروعة في كلّ زمان ومكان.
ومن المعلوم أنّ المجتمع الإسلامي مجتمع قوي بِتَمَاسُك أفراده وتعاونهم على البرّ والتّقوى، فالغنيّ يعطف على الفقير والقويّ يُساعد الضعيف فَهُم كالجسد الواحد، وقد ضرب رسولنا– صلّى الله عليه وسلّم – للمؤمنين مثلاً يُعرفون به ويحرصون عليه، في قوله– صلّى الله عليه وسلّم -: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)، وقوله- صلّى الله عليه وسلّم – أيضاً: (الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا).
لذلك فإننا نُذَكِّر أحبَّاءنا بأنَّ أبواب الخير كثيرة والحمد لله، منها: تَبَسُّمك في وجه أخيك صَدَقَة، وَإِمَاطَة الأذى عن الطريق صدقة، واسْقَاؤك الماء على الماء صدقة، وإصلاحك بين المتخاصمين صدقة، وَرَسْم البسمة على الشّفاه المحرومة صدقة، ومن أفعال الخير مُسَاعدة المُحتاج وإغاثة الملهوف.
اللهم ثبِّتْنا على الإيمان والعمل الصالح، وَأَحْيِنا حياةً طيبةً، وَأَلْحِقْنَا بالصَّالحين، كما نسأله سبحانه وتعالى أن يُعِيدَ علينا شهر رمضان القادم باليُمْنِ والخير والبركات، وقد جمع الله شملنا وَوَحَّدَ كلمتنا وَأَلَّفَ بين قلوبنا، إنّه سميع قريب.
وصلّى الله على سيّدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
* خطيب المسـجد الأقصى المبـارك
وزير الأوقاف والشئون الدينية السابق
www.yousefsalama.com
تقييم:
0
0
مشاركة:
التعليق على الموضوع
لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...
...........................................
=== إضافة تعليق جديد ===
في موقع خبار بلادي نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين خدماتنا. وبالضغط على OK، فإنك توافق على ذلك، ولمزيد من المعلومات، يُرجى الاطلاع على سياسة الخصوصية.