بعد رحيل رمضان، تكرّر ما خشينا تكرّره؛ فهدأت المساجد وتناقص عدد الصفوف، ورجعت المصاحف إلى الرّفوف، ولم يثبت سوى أولئك الذين اختاروا أن يجعلوا حياتهم رمضانَ دائما؛ مصاحفهم لا يعلوها الغبار ولا يطالها الهجران، خطاهم إلى المساجد لا تعرف الفتور ولا التراجع.. جعلوا رمضان محطّة لشحن إيمانهم، فزادَهم –بإذن الله- قوة إلى قوتهم وعزما إلى عزمهم.. هذه حال القلّة القليلة الصّابرة الثّابتة، بإزاء حال كثير من عباد الله الذين أبوا إلا أن يستسلموا لنفوسهم الأمّارة بالسّوء، ويركنوا إلى الرّاحة من طاعة الله، أياما قليلة بعد رحيل رمضان!
لسنا ندري لماذا نصرّ على تكرار ذات المشهد كلّ عام؟ لماذا نصرّ على أن نُثبت بلسان الحال أنّنا أصبحنا نتعامل مع الطّاعات، على أنّها أحمال ثقيلة، نتحيّن الفرصة لنتخلّص منها؟ متى سنراجع أحوالنا؟ ومتى سنربّي أنفسنا؟ متى ندرك أنّ المحافظة على الصّلاة في بيت الله وتلاوةَ القرآن والذّكر والدّعاء والاستغفار، هي مكمن السّعادة الحقيقية في هذه الدّنيا؟ إلى متى ونحن نصغي لأنفسنا التي توسوس لنا بأنّ السّعادة في الجلوس أمام شاشات التلفزيون والتسمّر أمام الهواتف، والالتفاف حول طاولات المقاهي ومتابعة مباريات كرة القدم؟
هكذا ثبت الأوّلون
يقول أحد الدّعاة: “لو كان الصّحابة بمثل همّتنا وهمومنا لما تجاوزت الدّعوة الإسلاميّة دار الأرقم بن أبي الأرقم”، ولكن لله الحمد أنّهم كانوا رجالا عرفوا أنّ حياتهم وسعادتهم في الدّنيا ونجاتهم في الآخرة بهذا الدّين العظيم، الذي ينبغي أن يبذلوا أموالهم وأنفسهم وكلّ ما يملكون لنصرته.. كانوا يعلمون أنّهم سيسألون عن مصير الأجيال التي تأتي بعدهم، ويدركون أنّ مصير الدّين يتحدّد بعد فضل الله وتوفيقه، على ثباتهم، فثبتوا ثبات الجبال الرّواسي، رضي الله عنهم وأرضاهم.
تأمّل أخي المؤمن، يا من بدأت خطاك تترنّح بعد رمضان، تأمّل معي قصّة واحد من أولئك الأفذاذ مع الثّبات على دين الله، ثمّ قارن موقفه بحالنا في هذا الزّمان، حين أصبح كثير منّا يتخلّون عن طاعة الله من غير فتنة ولا ابتلاء.. في أواخر عهد النبيّ- صلّى الله عليه وسلّم- حين خرج مسيلمة الكذاب باليمامة وادّعى النبوّة، أراد المصطفى -عليه الصّلاة والسّلام- أن يبعث إليه برسالة ينهاه فيها عن إفكه وبهتانه وغيّه، ووقع الاختيار على أحد الشباب، ليتولّى هذه المهمّة الصّعبة والخطيرة، ومن للمدلهمات غير الشباب، وقع الاختيار على حبيب بن زيد رضي الله عنه، شاب تربّى في حجر أمّه أمّ عمارة –رضي الله عنها- التي كانت تقاتل مع النبيّ –صلّى الله عليه وسلّم- في غزواته قتال اللّبؤات.. سافر “حبيب” في تلك المهمة الخطيرة وكلّه فرح باختيار النبي –عليه الصّلاة والسّلام- له، وللثقة التي وضعها فيه، فلما وصل إلى مسيلمة الكذاب، قيّده بالقيود، وأنزل به ألوان العذاب، يريد أن يفتنه عن دينه. قال له: أ تشهد أنّ محمداً رسول الله؟ قال حبيب: نعم أشهد أن محمداً رسول الله، فعاد يسأله: وتشهد أني رسول الله؟
فأجاب حبيب بسخرية: إني لا أسمع ما تقول، فاشتد غضب الكذاب وهاج ودعا بالسّيف، وراح يقطع جسد حبيب قطعة قطعة، وكان كلما قطع منه قطعة قال له: أتشهد أني رسول الله، فيقول حبيب: لا أسمع شيئاً، ولكنّي أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فما زالوا يقطعون لحمه قطعة قطعة، وفي كل مرة يرددون عليه: أ تشهد أن مسيلمة رسول الله؟ وهو يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، حتى فارقت الروح الجسد.. لقد كان في وسع حبيب أن يأخذ بالرّخصة ويظهر تصديق مسيلمة بلسانه، ويكون معذورا في ذلك، لكنه أبى أن يشمت عدوّ الله وعدوّ رسوله به وبرسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وهكذا يثبت الصّالحون
ربّما تقول أخي المؤمن إنّ هذا الشابّ عاش في زمن غير زماننا، في زمن الخير والصّلاح ونزول الوحي، ألا فلتتأمّل معي إذن موقف هذا الشابّ من أهل زماننا.. شابّ معاق، يدعى مراد، يتنقّل على كرسيّ متحرّك، لكنّه لا يفوّت صلاة في بيت الله، حتى صلاة الفجر يصليها في المسجد مع الركّع السّجود..
هذا الشابّ كان يعمل قبل إصابته في أحد مصانع النّسيج، وكان مستقيما محافظا على صلاته، بشوشا يحبّه الجميع.. يقول وهو يروي فاجعته في ذلك اليوم: “كنت بجانب آلة غزل النسيج. كانت تدور كالعادة، ولعلي اقتربت منها أكثر من اللازم، فلامست ثوبي، وفجأة جذبتني إليها ولم أستطع أن أقاوم. لقد حدث كل ذلك بسرعة كبيرة. وجدت نفسي وسط الآلة وهي تدور. كسر عمودي الفقري، ثم كسرت ساقي اليمنى بل تهشمت وتطاير الدم واللحم. سارع الزملاء في العمل إلى إيقاف الآلة. لكن بعد ماذا؟ نقلت فورا إلى قسم الاستعجالات بالمستشفى، ومنه إلى مستشفى العاصمة بسرعة. كانت حالتي في غاية الخطورة. أجريت لي بعد الحادث تسع عمليات جراحية، والحمد لله نجوت، لقد كتب الله لي عمرا جديدا. إنها معجزة إلهية. حتى الأطباء لم يخطر على بالهم أني سأعيش. عشت بحمد الله وفضله، لكنّي لن أمشي بعد ذلك الحادث على قدمي، بل على كرسي متحرك، والحمد لله على كلّ حال”.. مراد لم يتسخّط على قدر الله، ولم يستسلم لإعاقته، ولم يتمسّك بالأعذار مع أنّه من أصحاب الأعذار، بل نظر إلى الحادث على أنّه بلاء من الله يخفي خلفه حكمة يعلمها الله، فقرّر أن يواصل طريق الاستقامة رغم الصّعوبات..
لقد تعوّد المصلّون في مسجد الحيّ على حضور مراد الصلوات الخمس بكرسيه المتحرّك، يفتحون له الباب الخلفي فيدخل بكرسيه ويقف في الصف مع الجماعة.. لم تمنعه إعاقته الجسدية من الحضور في كلّ الأحوال والظّروف، حتى صلاة الفجر لا تفوته أبدا.. طباعه لم تتغيّر، بل ظل بشوشا لا تفارق الابتسامة وجهه.. لم تغيره المحنة بل زادته إيمانا ورضا بقدر الحنّان المنّان الذي ما يُشقي إلا ليسعد وما يأخذ إلا ليعطي وما يبكي إلا ليضحك وما يحرم إلا ليتفضل.
هذا الشابّ وأمثاله من الثّابتين على طاعة الله، ممّن تعلّقت قلوبهم بالمساجد والقرآن، سيكونون حجّة علينا يوم القيامة.. بأيّ عذر سنعتذر بين يدي الله يوم القيامة حين يسألنا عن هجرنا لبيوته بعد رمضان؟ وبأيّ حجّة سنتمسّك؟ هل سنتعلّل بالتّعب أم بالمشاغل أم بالمسلسلات والفايسبوك وجلسات القيل والقال؟ بماذا سنجيب عندما يسألنا مولانا عن نداء الصّلاة الذي كان يمرّ على أسماعنا كأنّه لا يعنينا! كأنّه يخاطب أناسا آخرين!
هؤلاء سيكون حجّة علينا
نعم أخي المؤمن.. أنت يا من تركت الصّلاة في المسجد بعد رمضان، ولم تفتح المصحف منذ آخر يوم من رمضان.. يا من متّعك الله بالصحّة والعافية ولم تدرك قدر النّعمة التي تتقلّب فيها باللّيل والنّهار.. سيكون مراد وأمثاله حجّة عليك.. لا بل سيكون أخوك الذي معك في البيت حجّة عليك.. أخوك الذي لا تفوته صلاة في بيت الله.. أخوك الذي تنافسه في الدّنيا وفي جمع المال وربّما تخاصمه لأجل السّكن والأرض، ولا تنافسه في الصّلاة ولا في قراءة القرآن.. أخوك هذا سيكون حجّة عليك بين يدي الله.. إن لم يكن أخوك فربّما يكون جارك الذي يمرّ بك كلّ يوم متّجها إلى المسجد بينما تجلس أنت منشغلا بالقيل والقال وبالنّظر إلى الغادين والرّائحين.. هل ترضى أخي المؤمن أن تأتي يوم القيامة لتجد نفسك في موقف صعب تنتظر الحساب على أحرّ من الجمر، وترى أخاك وصديقك وجارك يساقون في زمرة الجنّة؟ تذكّر أخي الحبيب أنّ المنازل عند الله تفرّق بينها التّسبيحة والتّحميدة والتّهليلة، والدّعاء والبكاء، كيف بالصّلاة في بيت الله؟ كيف بأعمال البرّ والخير الأخرى؟ تأمّل أُخيّ، هذا عبد الله بن رواحة، رضي الله عنه، صحابيّ النبيّ –صلّى الله عليه وسلّم- الذي استشهد في غزوة مؤتة في السّنة 8 هـ؛ تأخر سريره عن سريري صاحبيه زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب في الجنة مع أنه استشهد معهما، لأنه تأخر عن صاحبيه في التقدم للقتال لحظات قليلة.. عكاشة بن محصن –رضي الله عنه- لمّا سمع أن سبعين ألفا سيدخلون الجنة بغير حساب، أسرع فقال: يا رسول الله، ادع الله أن أكون منهم، فقال عليه الصّلاة والسّلام: أنت منهم، فقال صحابي آخر: ادع الله أن أكون منهم. فقال عليه الصّلاة والسّلام: سبقك بها عكاشة.. تأمّل وتدبّر؛ بين دخول الجنة بغير حساب، وبين التعرض للحساب والمساءلة، لحظة واحدة لا تتعدّى بضع ثوان.. لتعلمْ أخي المؤمن أنّ أشد الناس ندماً في الآخرة هم المهدِرون لأعمارهم عندما يرون رأي العين أنّ بين الدرجة والدرجة في الجنة عمل يسير استهانوا به في الدّنيا.. يقول أحد المفرّطين أمثالنا: “رأيت صديقاً لا يوقف تحريك شفتيه ونحن جلوس نتكلم، لا يكاد يوقفهما عن التسبيح حتى انفض المجلس، فقمت وبي من الحسرة على نفسي ما الله به عليم.. حسرة على حالي أنا الذي أضيّع عمري وأنفاسي في كثرة القيل والقال”.
بادر مرّة أخرى
أخي المؤمن.. ربّما أصابك الفتور في هذه الأيام السّبعة بعد رمضان، لكن، هل ستسمح للفتور بأن يستمرّ معك، لتنقض غزلك، وتنكص عمّا بدأته في رمضان؟ رمضان قد رحل، لكنّ أبواب الرّحمة والتّوبة والمغفرة، لا تزال مشرعة.. فقط، لا تستسلم لنفسك، وعد أدراجك، وتذكّر نسمات رمضان التي لا تزال تخالط أنفاسك، وتذكّر موضع سجودك في بيت الله الذي بدأ يشتاق إليك، وتذكّر الموضع الذي كنتَ تجلس فيه في المسجد لتتلو كلام ربّك، وحاول أن تستشعر حنينه إليك.
لا تستسلم أخيّ لنفسك ولقرينك. ابدأ من جديد الآن في هذه السّاعة، واعلم أنّ الفرص التي كانت متاحة لك في رمضان يوجد مثلها في سائر الأيام، ولا تنس أنّ باب التّوبة والرّحمة والمغفرة سيظلّ مفتوحا، فبادر أخي قبل أن تبادر.
عُد أدراجك وابدأ من جديد
سلطان بركاني
2023/04/26
تقييم:
0
0
مشاركة:
التعليق على الموضوع
لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...
...........................................
=== إضافة تعليق جديد ===
في موقع خبار بلادي نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين خدماتنا. وبالضغط على OK، فإنك توافق على ذلك، ولمزيد من المعلومات، يُرجى الاطلاع على سياسة الخصوصية.