نحنُ قوْمٌ لا نُهاجِر
ابْتُلِيَ الشعب الجزائري بأخْبثِ ما وُجِدَ على هذه البسيطة من مخلوقات، أعني الفرنسيين الذين أجزم بأنه لم يُخلقْ مثلهم في الشر، فهم “أئمة” في الفساد، رادَةٌ في المفسدين.. وبسبب هؤلاء المجرمين، آثرَ كثير من الجزائريين أن يُهاجِروا إلى بلدان عربية، متحملين آلامَ الغُربةِ وقساوتها. وقد كانت هذه الهجرة جماعية في بعض الأحيان… وكانت فرنسا المجرمة تَوَدُّ لو أن الجزائريين جميعهم يهاجرون وطَنهم لتخلو لهم الجزائر، فيخلدوا فيها.. وكان بعض العلماء الجزائريين قد أصدروا فتَاوى تَنْهى الجزائريين عن الهجرة، وتحثهم على الصبر والمصابرة حتى يأتي الله –عز وجل- بأمر من عنده، وممن أفتوا بذلك الشيخ محمد ابن الشاهد في القرن التاسع عشر. (انظر فتواه في كتاب “حكم الهجرة من خلال ثلاث رسائل جزائرية” للدكتور محمد ابن عبد الكريم الجزائري).
وكان أبرز عالِمٍ رفض الهجرة في القرن العشرين هو الإمام المرتضَى عبد الحميد ابن باديس، حيث رفض الإقامة في “منزل الوحي” في طيبة الطيبة بجوار خير الخَلْق من عُرْبٍ ومن عَجَم، وآثر العودة إلى الجزائر في سنة 1913، حيث كان الفرنسيون المجرمون يَسُومون الجزائريين سُوء العذاب، ويذيقونهم ضعف الحياة وضعف الممات، فلعنة الله وملائكته عليهم..
وفي شهر سبتمبر من عام 1937، دُشِّنَتْ قلعة من قلاع “جمعية العلماء”، التي كانت “تُعِدُّ الجيل الزاحف بالمصاحف” كما يقول الإمام الإبراهيمي، أعني “مدرسة دار الحديث” بمدينة تلمسان.. وقد أقام الجزائريون “عرسا علميا” احتفالا بتلك المناسبة، وتأكدَتْ فرنسا المجرمة من أن “جمعية العلماء” أبْطَلَت سِحْرَهَا، وتَلَقَّفَتْ إِفْكَهَا، وأن أمَانِيَّها قد أصِيبَتْ في مقتل..
ألقى الشيخ مبارك الميلي درساً دار حول حديث لرسول الله –عليه الصلاة والسلام- وهو قوله: “إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوَى…”. وما إن انتهى الشيخ من درسه حتى وَقَفَ الإمام عبد الحميد ابن باديس ليُعَقِّبَ على ما قيل، وقد جاء في تعقيب الإمام ابن باديس قوله: “فنَحْنُ لا نُهاجر، نحن حُرَّاسُ الإسلام والعربية والقومية بجميع مُدَعِّمَاتها في هذا الوطن”. (الشهاب.أكتوبر 1937، ص355). وذلك رَدّاً على ما اقترحه عليه أستاذه حمدان لُونيسي الذي هاجر إلى المدينة المنورة من البقاء في الحجاز.
وفي تلك الأيام، أخبر الإمام الإبراهيمي أخاه الإمام ابن باديس بعزمه على الهجرة من الجزائر، فما كان من الإمام ابن باديس لكي يَمْحُو فكرة الهجرة من عقل أخيه الإمام الإبراهيمي إلّا أن قال له: “إن خروجَك أو خروجي يكتبه الله فِرَاراً من الزحف”. (آثار الإمام الإبراهيمي ج4، ص338). وحُكْمُ الفرار من الزحف –كما جاء في القرآن الكريم- هو الخلود في جهنم.. وقد كانت جمعية العلماء تعتبر أعمالها “جهاداً” ضد المخطط الفرنسي الإجرامي في الجزائر، وهو فَرْنسة الجزائر وتنصير الجزائريين، ولهذا كان الإمام الإبراهيمي يُسَمِّي معلمي جمعية العلماء “المجاهدين”..
وقد أخبرني الأستاذ حسين بو شعيب –مدير الشعائر الدينية الأسبق في وزارة الشؤون الدينية- أن الشيخ عبد القادر الياجوري عَزَمَ على الهجرة إلى الحجاز، وذلك في أوائل الخمسينيات فبَاعَ أملاكه، واستخرج جواز سفر، ثم ذهب إلى معهد ابن باديس ليودع زملاءه ومديره الشيخ العربي التبسي الذي قال له ما معناه إنك فارٌّ من الحرب ضد فرنسا المجرمة، فما كان من الشيخ الياجوري إلا أن مَزَّقَ جواز السفر وبقي يجاهد حتى جاء نصر الله.
وإن جمعية العلماء اليوم تهتدي بأولئك المجاهدين الصادقين وتعاهدهم على الثبات على الثلاثية المقدسة: “الإسلام ديننا- العربية لغتنا- الجزائر وطننا”. ورحم الله كلّ من عاش لهذه الثلاثية، ومات عليها..
نحنُ قوْمٌ لا نُهاجِر
محمد الهادي الحسني
2023/04/26