الحياة كلّها رمضان
بالأمس القريب ودّعنا رمضان، وكلّنا أمل في أنه رحل ليشهد لنا عند مولاه الحنّان المنّان ويثني علينا خيرا في الملأ الأعلى.. لا شكّ في أنّ ضيفنا العزيز قد فرح بكثير من عباد الله المؤمنين الذين فرحوا به؛ أحسنوا استقباله واستغلاله، ثمّ أحسنوا وداعه، ولا شكّ في أنّه يتمنّى لو يعود ويجدهم على الحال التي تركهم عليها، يحثّون الخطى إلى بيوت الله، ويتلون كلام الله، ويصومون بالنّهار ويصلّون بالليل ويستغفرون بالأسحار، ويمدّون أيديهم بالصّدقات، ويحرّكون ألسنتهم بالذّكر والدّعوات وأطيب الكلمات.
ودّعنا رمضان، لكنّ المفترض فينا أنّنا نعبد ربا حيا قيوما يرانا ويطّلع علينا ويحصي أعمالنا في كلّ شهر وكلّ أسبوع وكلّ يوم.. رمضان محطّة نرجع فيها إلى الله ونتوب إليه من ذنوبنا ونعود إلى فطرة الخير في نفوسنا ونفتح صفحة جديدة من حياتنا، وكلّنا عزم على ألا نعود إلى غفلتنا وتقصيرنا.. لذلك فالمفترض في حقّنا أن لا نودّع المساجد ولا نطوي المصاحف مع وداع رمضان، ولا نترك قيام الليل بعد الشّهر الفضيل، ولا ننسى الصّدقات بعد رحيل شهر الخيرات.. رمضان، حقّه علينا أن نأخذه معنا إلى باقي شهور العام؛ فهو ليس شهراً بل منهج حياة؛ ينبغي أن نفسح له المجال ليحيا معنا ونحيا به طول العام.. الصوم لا ينتهي برحيل شهر الصيام، وأجر تلاوة وختم القرآن لا يُحجب ولا يُمنع بعد رحيل رمضان.. أبواب المساجد لن تغلق بعد رمضان، وأجر صلاة الجماعة سيظلّ مضاعفا في كلّ شهر.
كثير منّا امتنّ الله عليهم بالتّوفيق لصيام 29 يوما، في صحّة وعافية، ووفقوا لقيام 29 ليلة كاملة، وتهجّدوا في العشر الأواخر ودعوا الله، وبيننا من بكوا في التراويح والتهجّد.. فهل يصحّ بعد كلّ هذا ألا تمرّ علينا سوى بضعة أيام حتّى نترك الصّلاة في المساجد، فلا نسلك لها طريقا إلا يوم الجمعة؟ هل يصحّ بعد أن صلينا أكثر من 145 صلاة في بيت الله، أن نعود إلى الصلاة في بيوتنا، ونهجر بيت الله حتّى يشتاق إلينا ويحنّ إلى جباهنا؟ كيف لنا أن ننسى بهذه السّرعة قول الله تعالى: ((إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِين)) (التوبة: 18). إنّها أحبّ البقاع والأماكن إلى الله، فكيف لا تكون أحبّ الأماكن إلى قلوبنا؟ إذا لم تغفر ذنوبنا في بيوت الله فأين تغفر؟ إذا لم تنزل علينا رحمة الله في بيوته فأين تنزل؟ إذا لم تستجب دعواتنا في بيوت الله فأين تستجاب؟ إذا لم تزل همومنا في بيوت الله فأين تزول؟
صمنا وصلينا وقمنا ومنّا من بكى في سجوده وذرف دموعه وهو يدعو مولاه؛ فهل يصحّ بعد هذا أن ننظر بأعيننا إلى العورات ونتبّع الشّهوات؟ هل يليق بمن صلى التهجّد في بيت الله أن يظلّ مصرا على هجر أخيه أو قريبه أو جاره لأجل دنيا فانية؟ هل يليق بمسلمة ظلّت تحثّ خطاها في كلّ ليلة من رمضان إلى بيت الله لتصلّي التراويح، وتخرج من بيتها في ثلث الليل الأخير لتصلّي التهجّد، ثمّ إذا بها بعد رمضان تبقى مصرّة على لبس الضيّق والتلاعب بالحجاب وعلى وضع العطور والأصباغ؟ هل يصحّ لمسلمة داومت على صلاة التراويح في بيت الله أن تبقى مصّرة بعد رمضان على أذية حماتها والدة زوجها بكلماتها الجارحة وتأفّفها وتذمّرها وكثرة شكايتها؟ وهل يليق بأمّ على مشارف، صلّت التراويح والتهجّد، أن تظلّ مصرّة على أذية وظلم زوجة ابنها؟
صلاة التراويح والتهجّد يجب أن تظهر آثارها في حياتنا بعد رمضان، ونثبت حقيقة أنّنا كنّا نصلّي لأنّنا تبنا إلى الله وبدأنا صفحة جديدة من حياتنا، ولم نكن نفعل ذلك تماشيا مع العرف السّائد.. نصلّي التراويح كما يصلّيها المصلّون، ونحثّ الخطى لصلاة التهجّد كما يفعل القائمون؛ لكن عندما يتعلّق الأمر بالحلال والحرام والظلم والقطيعة، كأنّنا ما صلّينا ولا صمنا ولا تصدّقنا ولا قمنا!
البكاء في التراويح والتهجّد ليس هو وحده ما يدخلنا الجنّة! ما يدخلنا الجنّة هو أن تكون قلوبنا سليمة لله؛ نحسن به -سبحانه- الظنّ ونرضى بحكمه واختياره.. أن تكون قلوبنا بعضنا سليمة لبعض، لا يحقد بعضنا على بعض ولا يحسد بعضنا بعضا، ولا يعادي بعضنا بعضا.. ما يدخلنا الجنّة هو أن نحافظ على صلواتنا في أوقاتها حتى يأتينا اليقين.. أن نتصدّق ونبذل من أموالنا التي نحبّها ونحتاج إليها.. ما يدخلنا الجنّة هو أن نسأل عن كلّ معاملة قبل أن نقدم عليها، فإن كانت حلالا تقدّمنا وإن كانت حراما توقّفنا، مهما كانت المصلحة ومهما كانت المغريات.. ما يدخلنا الجنّة هو أن نكفّ أبصارنا عن النّظر إلى العورات وألسنتنا عن الخوض في الأعراض.. ما يدخلنا الجنّة هو أن نبحث في لباسنا ومظاهرنا عمّا يرضي الله وليس عمّا يعجب النّاس ولا عن الموضة والبريستيج!
ما يدخلنا الجنّة هو أن ننظر كم لله من حياتنا وأوقاتنا وهمومنا؟ أن ننظر قدر الدّين في قلوبنا وأفعالنا وأقوالنا، يقول النبيّ -صلى الله عليه وآله وسلم-: “من أراد أن يعلم ماله عند الله، فلينظر ما لله عنده” (صحيح الجامع)، ويقول ابن عطاء الله السكندري رحمه الله: “إذا أردت أن تعرف مقامك عند الله فانظر فيم أقامك”.
نعم أخي المؤمن.. انظر في قلبك ونفسك وحالك: ما الذي يشغَلُ بالَك في أغلب الأوقات وتُكثرُ التفكير فيه؟ ما الذي تُخطّطُ له؟ وعلى ماذا تحرص؟ وإلى أي شيء تسعى، وتتحرك؟ ما هي الأماكن التي ترتادُها؟ وماذا تعملُ؟ وفيم يمضي يومُك؟ ومن أصحابُك وخاصّتُك، وفيم تتحدثون إذا التقيتُم، وعلى ماذا تتعاونون؟ بماذا تفرحُ وما الذي يُحزنك؟ وعلى ماذا تتحسّر أو تندمُ؟ وما الذي تحرصُ على تعويضه إذا فاتك؟ الإجابة عن هذه الأسئلة تجعلك تدرك ما لله ولدينه عندك، ((بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ)).
الحياة كلّها رمضان
سلطان بركاني
2023/04/25