ارموا بالتضامن إلى الشارع يحتضنه الشعب
لعلّ أهم مكسب خرج به الجزائريون من الشهر الفضيل، بعد قبول صيامهم وقيامهم وصالح أعمالهم بمزيد من الأجر والثواب، هو تلك الروح التضامنية العالية التي نجحوا في تكريسها عفويّا وعلى نطاق واسع بشكل جدّ لافت، يستدعي التقييم والاستشراف للبناء عليه في صناعة مشاريع تكافل اجتماعي واعدة.
بعيدا عن هواة الجدل الفارغ باسم السنة، من الذين يحاولون في كل سانحة جامعة إغراق المجتمع في كأس الخلاف الفقهي، بشأن زكاة الفطر والمولد النبوي الشريف وسواهما، فقد تفرغ مواطنون وطلبة وشباب متطوعون من كل الأعمار عبر ربوع الجزائر العميقة في خدمة الصائمين والمعوزين وعابري السبيل، وإدخال البهجة على قلوب الفقراء في فرحة العيد.
يمكن الجزم بكل اطمئنان أن لا جزائري بعيد عن أهله، أو مسلم أجنبي مقيم في أرض الجزائر، لم يفطر في رمضان على مائدة الرحمة، يخدمه فيها إخوانه بكل سرور، يتسابقون على إرضائه بكل ما لذّ وطاب، حتى صار أهل البذل والعطاء يخرجون من المدن، بسبب تشبّع النشاط الخيري، إلى الطرقات السريعة للظفر بإطعام الصائم.
والملاحظ من سنة إلى أخرى، أن مطاعم الرحمة لم تعد مقتصرة على مبادرات تقليدية، على غرار نشاطات الهلال الأحمر والكشافة الإسلامية وكبرى الجمعيات الوطنية، بل أصبحت ثقافة تكافليّة عفوية وسط المجتمع الجزائري، حيث تشكلت مبادرات شبابية مؤقتة، كما تخصصت مطاعم خاصة داخل المدن وخارجها على الطرقات الوطنية، في تقديم خدماتها مجانًا لعابري السبيل طيلة الشهر الفضيل، وهي تجد من يدعمها ماليا من أهل الخير والإحسان، ما يثبت المعدن الكريم والرحيم للفرد الجزائري، وهو خلق وطني وإنساني في غاية الأهمية.
كما تنافست جمعيات بالآلاف على كسوة الفقراء واتمام فرحة العيد ببيوت كسر خاطرها العوز، وقد طالعتنا وسائط التواصل الاجتماعي بكمّ المبادرات الافتراضية والميدانية لجمع وشراء اللباس الجديد وتوزيعه على المستحقين ليكون العيد موسم سرور على الجميع، ناهيك عن التزام الجزائريين بدفع زكاة الفطر لمستحقيها.
لا شكّ أن ما عشناه خلال رمضان من صور تضامنية غير مسبوقة يعزز الثقة الجماعية في إبداعات الجزائريين وتمتين التلاحم الاجتماعي فيما بينهم بصفة عفوية، تكسر هوة الطبقية وتجسّر علاقات الأخوة والتعايش والتراحم، بل إنها إضافة مهمة إلى أدوار الدولة الرسمية في رعاية الفئات الاجتماعية الضعيفة، حتّى أن رئيس الجمهورية نوّه شخصيا، في تهنئته للجزائريين بالعيد، بتلك الأعمال الخيرية داخل الوطن وعند جاليتنا في الخارج، معتبرا إياها سندا في خدمة المواطن وتلبية احتياجاته.
إن الروح التضامنية التي ميّزت الجزائريين على الدوام في الملمّات، أصبحت اليوم ثقافة عامة تدفع المواطنين إلى التطوع والإحسان والتكافل خارج الأطر التقليدية، وتجعلهم جاهزين للانخراط في أي مبادرة إنسانية ذات نفع عام، وهي بلا شك حالة متقدمة من الحس الوطني والوعي المجتمعي ينبغي استثمارها في تعزيز تماسك الجبهة الاجتماعية.
لكن الأهم في ظل هذا الاستعداد التطوعي بالمال والوقت والجهد، هو التفكير، مثلما ما عبّر عنه مختصون من أهل الرأي والنخبة، في تحويل سلوك السخاء والتبرعات والمبادرات إلى مشاريع إنتاج، تنقل الفقير والمحتاج من العيش على قبول الصدقات إلى مرحلة العمل والاستثمار، خاصة في ظل تزايد الاقبال على تقديم أموال الزكاة المفروضة، وإطلاق الدولة لديوان وطني خاص بها مع إدارة الأوقاف، بمعنى آخر أنّ المطلوب هو تقدم أكبر على طريق مؤسسة العمل الخيري، خاصة المادي والمالي منه.
إن بلوغ هذه المرحلة يحتاج إلى اجتهادات فقهية ونضج مجتمعي ومناخ من الشفافية وشروط تنظيمية وقانونية وخبرة إدارية في تسيير الأوقاف، وهي متوفرة نسبيّا ويمكن تحقيقها، لننطلق في مشاريع إنتاجية أكثر مردودية لفعل الإحسان والمحتاج على السواء.
ارموا بالتضامن إلى الشارع يحتضنه الشعب
عبد الحميد عثماني
2023/04/23