عن موجة الإلحاد الجديد : 2023-03-01 عبد العزيز كحيل/
كان الإلحاد قديما ظاهرة فردية تكاد تكون حيادية تتمثل في إنكار وجود الله وبالتالي أمور الدين والقيامة، لكنه تطور الآن إلى موقف عدائي من الدين، يرفض التديّن ويهاجم المتدينين ويسخر مهم، وينشر أفكاره مسندا إلى العلم التجريبي والفلسفة، حتى أصبح أصحابه أقرب إلى الميليشيا التي تمارس الإرهاب الفكري وتتجاوز كل الحدود ولا تحترم رأيا مخالفا، أصبح لا يتوارى كما كان في القديم بل يتسم بالحماس الشديد في الدعوة إلى اللادينية، وصار له تواجد كبير في العالم كله تقريبا على مستوى تأليف الكتب، والتواجد الكثيف في الإعلام المكتوب والمسموع والمرئي وخاصة وسائل التواصل الاجتماعي، وبرزت إلى الوجود مؤسسات إلحادية ومواقع تنشط على الانترنت، ولم ينج العالم العربي والإسلامي من الظاهرة فظهرت أسماء وجهات تتستر بالفلسفة والعلوم التجريبية، أخذت في الإسفار عن وجهها بصراحة، يتسم خطابها بالعدائية الشديدة للإسلام والهجوم اللاذع على مرجعيته ورموزه ومقدساته وازدراء شعائره وشرائعه وأخلاقه والخوض في المسائل الوجودية الكبرى، والتنقيب عن الشخصيات القلقة في تاريخنا القديم والحديث، مثل ابن الراوندي وعبد الله القصيمي، لتكون هي القدوات لأنها تمثل «الرأي الحر» والتمرد على الدين.
موجة الإلحاد تلقت دعما معنويا كبيرا من العولمة وما تسوّقه من معاني الحرية الشخصية وحرية الرأي والتعبير، والحرية الدينية التي أصبحت مواد مستقرة في دساتير الدول العربية الخاضعة للتوجيه الغربي، كما تستند إلى الانفجار الثقافي الهائل الذي تعضده الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي، وكذلك التقارب الفكري والثقافي الذي أصبح يطبع العلاقات السياسية تحت ضغط الإيديولجيا الغربية واليهودية التي يرى فيها العارفون بالخبايا أيادي الماسونية العالمية، فأدى ذلك في الفضاء الإسلامي إلى كارثة يستعمل فيها «عقل مسلم» مقترن بنقمة كبيرة على الذات في ضرب مصدر المقومات العقلانية والعقدية للذات الحضارية والثقافية، واللافت أن عقول الشباب هي بصفة خاصة تحت القصف الثقيل يوميا وعلى جميع المستويات إلى درجة أن المدرسة الجزائرية كانت تستعد لإدخال نظرية التطور – وهي من أكبر أسس الإلحاد – إلى المناهج التربوية، والإعلام العالمي يركز تركيزا كبيرا على رموز الإلحاد من لاعبين ومطربين وممثلين «عالميين»، ليكونوا قدوة للشباب فيتأثرون بسلوكهم ثم بأفكارهم، ويقودهم ذلك إلى الإلحاد في نهاية المطاف، مع الإشارة إلى أن القلق الذي يعتري كثيرا من الشباب المسلم شهد بروز تيارات بريئة في مظهرها لكن أثبت الواقع أنها بوابة للإلحاد في كثير من الأحيان، مثل «الليبرالية الإسلامية» و «الإصلاحية التنويرية»، انتهاء بما يسمى «الديانة الإبراهيمية» التي تبنتها دولة الإمارات بديلا عن الإسلام، وبموافقة – ضمنية على الأقل – من النظام السعودي، وشاعت في ظل ذلك معاني الأنسنة والمجتمع المدني والموقف من الآخر، وهي معان تسوّق لأهداف غير بريئة يظهر بجلاء أنها ترمي إلى الانتهاء من الدين لصالح «القيم الإنسانية» حينا ووحدة الأديان حينا آخر، مقابل هذا تراجعت القابلية للإيمان لدى كثير من الناس الذين راحوا ضحية الحملة العالمية المكثفة على أنماط التدين، وهي حملة جلية حينا ومتسترة حينا آخر، تسوقها الأفلام والمسلسلات والأغاني والمنتديات وحتى أفلام الكرتون الموجهة لأطفال.
هذا يدعونا إلى عدم تسطيح ظاهرة الإلحاد والتهوين منها واستصغار شأنها، بل يجب استشعار خطرها وقوتها، ولا يمكن مواجهتها إلا بتجديد الخطاب العقدي الإسلامي (لأن المسيحية هي في حد ذاتها أقرب إلى الإلحاد، وعقيدتها هشة لا تقوى على مواجهته ولا منازلته، وأتباعها لا يعنيهم أمر الدين أو الإلحاد، والكنيسة مشغولة بفضائحها وضعف مكانتها في النفوس).
لا يحتاج علماء الاسلام ودعاته إلى المراوحة في خانة الدفاع بل يجب امتلاك رؤية نقدية هجومية، وتقديمها بكل قوة على الساحة الإسلامية، يكون حجر الأساس فيها درء تعارض العلم التجريبي والعلوم النقلية، ومواجهة السؤال الأخلاقي وسؤال الإرادة الحرة وسؤال الوعي وإدراك الذات، على أن يتم التركيز على هدم إله الإلحاد المتمثل في الصدفة، وإنما يتم كل هذا استنادا إلى تأصيل المنهج الشرعي في التعامل مع الشبهات والإشكالات وترسيخ الحضور القرآني في القضايا الفكرية والعقدية.
ومواجهة الإلحاد لا تقتصر على الخطاب – أي الكلمة المكتوبة والمرئية والمسموعة – بل يجب أن تعضدها الوسائل التي يعتمدها الإلحاد مثل الأفلام والمسلسلات والمنتديات الفكرية والحوارية لتسوّق حقيقة الدين وتبين تهافت الإلحاد، وليس من المعقول أن يزحف الإلحاد زحفا عبر الوسائط الحديثة المتنوعة وتقتصر مواجهته على بعض الكتب والمقالات والحصص التلفزية القليلة، وهذا يحيلُنا إلى ضرورة تجديد العمل الدعوي الجماعي المنظم الذي تتبناه جمعيات ومعاهد ومؤسسات قوية فكريا وماديا مثل الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين وجمعية العلماء، لكن بشرط اقتحام مجال الانتاج السينمائي والفني والإعلامي الذي يتجاوز المناظرة والموعظة إلى الدفع العلمي الثقافي الرصين الذي يجمع بين بيان تهافت الإلحاد وإبراز حقائق الإسلام العقدية والفكرية، والحقيقة أن الهدف المتوخى من هذا ليس – في نظري – إعادة الملحدين إلى الدين – فهذا عسير بسبب القناعات الراسخة المستندة إلى الشبهات والشكوك والأوهام التي أُشربوها – لكن لتحصين المجتمع وترسيخ إيمان المسلمين والإجابة عن أسئلة الحيارى والقلقين مع العلم أنه من المفروض أن حراسة العقيدة والدفاع عن الإسلام والتصدي للدعوات الإلحادية هي مهمة الدولة المسلمة التي تستطيع توظيف أجهزتها الثقافية والإعلامية والسياسية لهذا الغرض لكن هذا بعيد المنال الآن لأن الدولة الحديثة نظام علماني إما يعادي الإسلام أو يوظفه توظيفا مصلحيا يخدم سياسته، ولا يعبأ بالدفاع عنه فضلا عن نشره والدعوة إليه.
إن مطارق الثقافة اخترقت حصوننا عبر التكنولوجيا الحديثة ودعوات الإلحاد تصل عقول الشباب بسهولة كبيرة، والملحد أو العلماني المعرب ينفي دائما التراث أو الموروث الديني الإسلامي على أساس أنه خرافات، ولكنه يستشهد دائما بالخرافات والتفاهات، فهزيمته ليست عسيرة إذا اجتمعت جيوش الإيمان في ساحة المواجهة الفكرية وتزودت بالأدوات المناسبة.
عن موجة الإلحاد الجديد
تقييم:
0
0
مشاركة:
التعليق على الموضوع
لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...
...........................................
=== إضافة تعليق جديد ===
في موقع خبار بلادي نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين خدماتنا. وبالضغط على OK، فإنك توافق على ذلك، ولمزيد من المعلومات، يُرجى الاطلاع على سياسة الخصوصية.