نشرتُ في صفحتي على الفايسبوك العبارة التالية: “الطفل ابنك وحدك عند الولادة، ثم يدخل الشركاء فيه، شيئا فشيئا إلى أن تفقده، فلا يراك شيئا”.
كان رد فعل الأصدقاء على هذا الفضاء المفتوح، تعليقات وكلام معبّر عن غاية في المعاناة والتذمر التي تعيشها الأسرة في علاقاتها بأبنائها، وهي معاناة حقيقية وملموسة في كل المجتمعات، ومنها مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وكان الكلام عن المحصلة لفعل الشركاء وليس للقضية في ذاتها، وأنا في تلك العبارة لم أقصد ذلك، وإنما أردت الإشارة إلى أمر واقع وطبيعي، وهو ما يجري في كل الأسر عبر التاريخ، وهو أن الطفل عندما يولد يكون بين يدي والديه في أضيق دائرة، فيكون التفاعل التربوي بين الطفل ووالديه بسيطا وسهلا وإيجابيا في الغالب؛ لأن الوالدين يحرصان دائما على أن يكون ابنهما على أحسن حال، في مظهره وفي مخبره، والطفل أيضا يتفاعل مع ذلك الاتجاه الواحد الذي لم ير غيره في خبرته البدائية.
ولكن هذه الصورة لا تبقى هكذا، وإنما ستدخل عليها عناصر أخرى لها تأثيرها من المحيط الضيق، من الجدود والأعمام والأخوال وغيرهم من الأقارب، بحيث يكون لهذه العناصر نفس التأثير على الطفل، ولكن قد يكون هذا التأثير على غير ما يريد الوالدان، وكل ذلك في إطار الأسرة بشقيها الصغير في داخل الدار والكبير من خارجها، التي يوجد فيها الجد والجدة والعم والعمة والخال والخالة، في هذه الدائرة يستقبل الطفل أمورا أخرى غير التي كان يتلقاها من والديه، فيتحول الولد من ابن لوالديه فقط، إلى إبن لمن دخل على الخط في خارج الأسرة الصغيرة، وهم هنا الجد والجدة والعم والعمة والخال والخالة كما أسلفنا، ليصبح للوالدين شركاء في الطفل، وعندها تتسع المساحة التي يتحرك فيها الطفل وتتسع معها دائرة الإختيار عنده وتتسع معها خبرته في التعامل، إذ يختار ما يحلو له من الأمور المعروضة عليه، لا سيما عندما تختلف الأراء والمواقف، ثم يدخل الجيران وأبناؤهم على الخط فتتسع دائرة الشراكة وتتسع معها خيارات الطفل أيضا، فيدخل في الموضوع شركاء جدد، وكذلك عندما يدخل الطفل المدرسة يدخل شريكٌ جديدٌ وهو المدرسة بما فيما من أصدقاء الدراسة والمعلمين والإدارة… وهكذا كلما انتقل الطفل إلى مرحلة جديدة، دخل على الخط شركاء جدد، قد يكونون أعوانا للوالدين في تربية الطفل وتهذيب سلوكه، أو مفسدين لما قام به الوالدان.
وفي مرحلة التعليم الإبتدائي والمتوسط والثانوي والجامعة، وفي الانتقال إلى الحياة العملية أيضا، في كل مرحلة من هذه المراحل يتلقى الأطفال أمورا غير التي كانت عنده من قبل، بسبب دخول العناصر الجديدة في حياة الطفل، وفي مرحلة ما بعد البلوغ ينتقل إلى مستوى آخر، إذ يخرج من دائرة الطفولة، إلى دائرة أخرى هي دائرة الشباب وما يتبعها، يدخل على حياته شركاء جدد، زملاء العمل والزوجة أو الزوج بالنسبة للبنت… ثم لما ينجب يدخل شركاء جدد في حياته، إذ تكون المحطة الأخيرة أن ذلك الوليد الذي لم يكن له غير والديه تربطه بهما رابطة قوية لا تسمح له بالإلتفات إلى غيرهما، يجد نفسه أمام مجموعات كبيرة من الشركاء، لا يستطيع تجاهلها أو تجاوزها؛ بل يكون لها من السلطان على واقعه، ما يجعلها ذات قيمة وثقل في صياغة شخصيته، ولعل هذا هو مفهوم حديث النبي صلى الله عليه وسلم “كلُّ مولودٍ يُولَدُ على الفِطرةِ حتَّى يكونَ أبواه يُهوِّدانِه ويُنصِّرانِه”، فأبواه تبدأ من الوالدين وتنتهي بآخر من تعرَّف على هذا الوليد من أفراد المجتمع وجماعاته.
إن العالم الإفتراضي اليوم في طريقه إلى انتزاع الطفل من والديه وليس الاشتراك فيه فحسب، بسبب هذه التطوُّرات السريعة في طبيعة الأسرة التي تخلَّت عن الاعتناء بالطفل، بسبب خُلوِّ البيت من الجو الأسري، الأب في العمل والأم في العمل والطفل يُنقل إلى مربِّية، فلا تكون الأسرة الصغيرة أسرة إلا في يوم واحد في الأسبوع في يوم الإجازة.
وإلى جانب هؤلاء الشركاء البارزين الذين نمرُّ بهم في حياتنا التي يعيشها كل الناس، يوجد شركاء آخرون غير مشاهَدين، مثل البرامج التلفزيونية، وسوشل ميديا الألعاب الالكترونية والأغاني والمشاهد المتنوعة على الهواتف المحمولة واللوحات الالكترونية، والسلوكات العفوية غير المقصودة للأبوين والإخوة، تدخل كشريك ضمن هذا النوع من الشركاء، فالوالدان قد يؤدبان إبنهما على قيم معينة، ولكنهما يمارسان غيرها من القيم المضادة، كان يقول الأب لابنه لا تكذب، ولكنه في الواقع يكذب، فيستقبل الطفل التوجيه من جهة ويستقبل السلوك الفعلي المضاد من جهة أخرى.
وكلمة شركاء هنا، لا أعني بها النتائج التي يكون عليها الطفل في النهاية، التي تكلم عنها أصدقائي في تعليقاتهم، وإنما دخول الشركاء على الخط.
ابتداء من ميلاد الطفل، يترك كل شريك في الطفل بصمة يكون لها أثرُها في مستقبله، فيصبح الطفل منتوج مجموع الشركاء، ولكن الأثر الأكبر يكون للشريك الأقوى خيرا كان أو شرا، فعندما يكون هناك اختلافٌ بين الأسرة والمجتمع، وتباينٌ بين الشركاء المختلفين –مثلا- فإن الأكثر تأثيرا يكون للشريك الأقوى.
وما كنت أهدف إليه في ذلك المنشور، هو لفت الإنتباه إلى أمور مغفول عنها، وهي أن هناك أمورا تفرض نفسها علينا ولا نختارها، فلا يستطيع الإنسان أن يحرم والديه من التمتُّع بحفيدهما، رغم ما في ذلك من مخاطرة في ترك الأمور إلى الجد والجدة اللذين في الغالب يُغلِّبان العواطف ومشاعر الأبوَّة على التربية الهادفة، بسبب ما يورِّثانه من دلال قد يُفسد الطفل. ومثلما نعجز عن منع الجدود من الدخول على الخط كشركاء في الطفل، لا يمكن أيضا أن نمنع الطفل من الاختلاط بأبناء الجيران وبالوسط المدرسي الذي سيكون شريكا أيضا بما يغرس فيه من عوائد وقيم قد لا نرضاها… بل إن منظومة القوانين الدولية الخاصة بحماية الطفولة، تتدخل كشريك جديد للأسرة في الطفل بقيم جديدة على الإنسانية، وربما تدخّلت لسبب من الأسباب لانتزاع الطفل من والديه!
إن العالم الإفتراضي اليوم في طريقه إلى انتزاع الطفل من والديه وليس الاشتراك فيه فحسب، بسبب هذه التطوُّرات السريعة في طبيعة الأسرة التي تخلَّت عن الاعتناء بالطفل، بسبب خُلوِّ البيت من الجو الأسري، الأب في العمل والأم في العمل والطفل يُنقل إلى مربِّية، فلا تكون الأسرة الصغيرة أسرة إلا في يوم واحد في الأسبوع في يوم الإجازة، ولا تكون العائلة الكبيرة عائلة إلا مرتين أو ثلاثا في السنة في الأعياد والمناسبات، فيجتمع كل أفرادها في بيت واحد.
والفرق بين ما ذكرت في المنشور، والتعليقات عليه، كالفرق بين التنبيه على مقدمات الشيء ونتائجه؛ فالمقدمات ترشدنا إلى الانتباه إلى ذلك، إذ يمكن للمرء أن يحاول استدراك ما يمكن استدراكه، أما النتائج فقد وقعت ولا يفيد معها إلا الأنشطة الأقوى على مستوى المجتمع وليس على مستوى الأسر؛ لأن الأسر محدودة الوسائل ولا يسعها فعلُ شيء إلا في مراحل محدودة وهي مراحل دخول الشركاء تباعا، إذ يمكن للأسرة أن تستعدّ لاستقبال هؤلاء ببرامج توجيهية، تحدّ من تأثيرهم السلبي على مستقبل الطفل. وربي يجيب الخير.
شركاؤنا في أبنائنا!
التهامي مجوري
2023/02/05
تقييم:
0
0
مشاركة:
التعليق على الموضوع
لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...
...........................................
=== إضافة تعليق جديد ===
في موقع خبار بلادي نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين خدماتنا. وبالضغط على OK، فإنك توافق على ذلك، ولمزيد من المعلومات، يُرجى الاطلاع على سياسة الخصوصية.