من سنن الله الثابتة في هذا الكون، أنّه ما خلق مخلوقا إلا كتب له رزقه من طريق حلال لا غشّ فيه ولا ظلم، ولكنّ كثيرا من بني آدم لا يرتضون طريق الحلال لما فيه من تعب ونصب، ولما يقتضيه من صبر وطول بال، لذلك يركنون إلى نزغات الشّيطان الذي يغريهم بسلوك طرق الحرام القصيرة التي لا تحتاج إلى تعب ولا صبر؛ ويمنّيهم زيادة مداخيلهم وتوسيع أرباحهم في أقصر وقت ممكن! بل إنّه يخوّفهم من نقصان أموالهم وكساد تجاراتهم ويعدهم الفقر والقلّة إن هم اكتفوا بالحلال وقعدوا عن المنافسة في طرق الحرام التي تعجّ بالسّالكين: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ﴾.
يركن كثير من النّاس إلى وساوس الشّيطان، فيفتحون لأنفسهم أبوابا من الحرام لزيادة أرزاقهم وتكثير أموالهم وترويج تجاراتهم.. فماذا تكون النتيجة؟ ترحل البركة، ويرفع الله فضله، فلا ترى ذلك العبد الذي جمع الحرام إلى الحلال إلا شاكيا باكيا مهموما مغموما مسودّ الوجه، مبتلى في نفسه وماله وأهله وولده، حصاده كما قال الشّاعر:
جمع الحرام على الحلال ليكثره * دخل الحرام على الحلال فبعثره.
تجد الرّجل فتح دكانا لبيع الموادّ الغذائية، مثلا، يكسب منه أرباحا تكفيه وأسرته وتستره، لكنّ الشّيطان يأتيه ليقول له: الزبائن قليلون والرّبح غير كاف، ماذا لو وسّعت تجارتك قليلا، لتكسب المزيد من الزّبائن وتضاعف أرباحك؟ لماذا لا تبيع “السّجائر” حتى تستميل زبائنَ جددا؟ يفكّر في أنّ الدخّان حرام، فيقول له الشّيطان: ولكنّك تبيعه ولا تتعاطاه! وينسيه حديث النبيّ -صلّى الله عليه وآله وسلّم-: “إِنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ شَيْئًا حَرَّمَ ثَمَنَه”.. ينسى العبد هذا، ويسمع لنزغات الشّيطان ويفتح على نفسه بابا للحرام، فيخلط أرباح الدخان المحرّمة مع أرباح المواد الغذائية الحلال، ويدخل الحرام على الحلال فيبعثر الحرام الحلال ويذهب بركته.. ربّما تزيد أرباحه في العدّ، لكنّ البركة تذهب من تجارته فيصبح لا تكفيه الآلاف ولا الملايين، وتكثر عليه النفقات والمصاريف، حتّى يحتار في أمره، وربّما لا يلتفت إلى أنّ ذلك بسبب باب الحرام الذي فتحه على نفسه.
يفتتح الرّجل محلا لبيع الخضر والفواكه، وهي تجارة حلال طيّب كسبها، لكنّ الشّيطان يأتيه ليخوّفه من كساد تجارته وخسارته إن هو لم يعمل في تجارته كما يعمل غيره من التجّار؛ فتراه يزيّن للنّاس ما تراه أعينهم من خضر وفواكه ينتقيها وينظّفها وينظّمها بصورة تغري النّاظرين، لكنّه يزن لهم ممّا لا تقع عليه أعينهم.. لا يلتفت ولا يهتمّ بدقّة ميزانه ولا يوفّي الكيل والميزان، ولا تكاد تسمعه إلا وهو يستسمح الزّبائن: “سامحني في مائة فرنك، في أربعمائة فرنك…”، وينسى قول النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: “لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه”، وقول العلماء إنّ ما أخذ بالحياء فهو حرام باطل.
تجد الرّجل يبيع الموادّ الكهرومنزلية، ويكسب من الأرباح ما يفي بحاجياته، لكنّ الشّيطان يأتيه ليخوّفه من الفقر ومن كساد تجارته، ويغريه بالنّظر إلى كبار التجار الذي يكسبون الملايين كلّ يوم، فيبدأ البائع في البحث عن طرق ملتوية لكسب المال، تجده مثلا يستغلّ حاجة بعض الزّبائن إلى المال ليرابيهم؛ يأتيه أحدهم ليشتري تلفازا -مثلا- بأربعة ملايين على أن يدفع ثمنه مؤجلا، ثمّ يبيعه لصاحب المحلّ بثمن أقلّ، بثلاثة ملايين ونصف المليون مثلا، ويأخذ المشتري ثلاثة ملايين ونصف المليون، ويبقى مدينا للبائع بأربعة ملايين مدّة ثلاثة أشهر، وهذا ربا محرّم، يُكسب التاجر مالا من دون تعب ولا نصب! يفرح به ويظلّ يحصي أرباحه ومداخيله، وينسى قول الله تعالى: ((يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ))، وما يلبث حتّى يمحق الله تجارته ويسلّط عليه الآفات والهموم والغموم، حتّى يقول: أنّى هذا؟! قل هو من عند أنفسكم.
يبيع الرّجل قطع غيار السيارات، وهي تجارة كفية بأن تدرّ عليه أرباحا تكفيه وأسرته وتغنيه، لكنّ الشّيطان يغريه بطرق ملتوية يزيد بها أرباحه، فيحترف الغشّ في أنواع قطع الغيار ويحلف بالأيمان المغلّظة كاذبا في الأسعار.. تزيد مداخيله، لكنّ البركة ترفع من رزقه، فلا تراه إلا والقترة تعلو وجهه ولا تسمعه إلا وهو يشكو ويتعلّل.
ترى الرّجل قد فتح محلا لبيع الملابس، يكسب منه ما يكفيه بفضل الله، لكنّ الشّيطان يأتيه في صورة النّاصح الأمين قائلا: ألا أدلّك على ما تكسب منه أرباحا أضعاف ما تكسب الآن؟ يا أخي اتّبع الموضة، واقتن الجديد وما يطلبه الزّبائن.. فينطلق إلى بيع الملابس الضّيقة والمقطّعة والمزرية ويعين أبناء وبنات المسلمين على معصية الله ويجمع الحرام إلى الحلال، فإذا سألته: لماذا تبيع هذه الأصناف من الملابس؟ قال لك: ماذا نفعل؛ هذه هي السوق! ولو صدق لقال: هذا هو الشّيطان الذي خدعني، وخوّفني الفقر وكساد تجارتي! ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ﴾.. استعجل زيادة رزقه بالحرام، ووالله لو اتقى الله وصبر لأتته البركة في الحلال.
تجد الرّجل قد فتح الله له باب رزق في حرفة من الحرف، يكسب رزقه بيده، ويرتاح من سجن الوظيفة وهمّها.. لكنّ الشّيطان يغريه بزيادة مداخيله، ويغويه بشيء من “الشّطارة”، فتجده يغشّ ويتحايل على النّاس.. تجده مثلا ميكانيكيا ما أن يأتيه زبون يشكو إليه عطلا في سيارته حتّى يطلب منه شراء قطع غيار هو ليس في حاجة إليها، ويدّعي أنّه يغيّر القديم بالجديد، وهو في حقيقة الأمر لا يفعل، بل يخفي القطع الجديدة ليبيعها لزبون آخر بأثمان باهظة، ويظنّ أنّه بذلك سيكسب مزيدا من الأموال، وينسى أنّ الله له بالمرصاد، وأنّه سيعاقبه من حيث لا يحتسب.
تسمع بالرّجل يعمل في منصب محترم، يتقاضى منه راتبا يسدّ به حاجياته ولا يحوجه إلى انتظار ما تجود به أيدي الآخرين.. لكنّ الشّيطان يغريه بالنّظر إلى من هم فوقه، ويخوّفه الفقر ويقول له: إذا مكثت تنتظر الراتب فلن تحقّق شيئا لمستقبلك ومستقبل أبنائك! فيبدأ في البحث عن أساليب يأخذ بها أموال النّاس بغير حقّ، فيطلب الرشوة يسمّيها بغير اسمها: “قهوة، غداء…” وتجده يتباهى بين نظرائه: “راتبي الشّهريّ لا أسحبه ولا أحتاج إليه، أنا مكتف بما آخذه من هدايا”! يظنّ أنّه قد أحسن صنعا، ولا يدري أنّه جنى على نفسه، وأنّه لن يطول به الأمر حتى يدفع ثمن ظلمه وبغيه وجشعه، وأنّ ما يكسبه من مال حرام سيكون وبالا عليه في الدّنيا وويلا له في الآخرة.
دخل الحرامُ على الحلال فبعثره!
سلطان بركاني
2023/02/04
تقييم:
0
0
مشاركة:
التعليق على الموضوع
لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...
...........................................
=== إضافة تعليق جديد ===
في موقع خبار بلادي نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين خدماتنا. وبالضغط على OK، فإنك توافق على ذلك، ولمزيد من المعلومات، يُرجى الاطلاع على سياسة الخصوصية.