رجال خالدون.. أحمد سحنون والآخرون
فقدت الجزائر في رُبع قرن ثلة من علمائها الذين كانوا دعاة على المنابر وقادة في المواقع، يدعون إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة اقتداء بهدي نبيهم صلى الله عليه وسلم الذي خاطبه ربه سبحانه وتعالى بقوله: “ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن” (النحل 125).
لقد تربى معظم من فارقنا من علماء الجزائر في رحاب خير جمعية أخرجت للناس “جمعية العلماء المسلمين الجزائريين”، وكانوا فرسانا في المنابر وقادة في المعارك، استوى عندهم الدفاعُ عن حمى الدين وحياض الوطن لأنهم آمنوا بأن حب الوطن من الإيمان.
لم يُعرف عن أكثر من أذكرهم من علماء الجزائر غزارة في التأليف ووضع التصانيف ولكن عُرف عنهم جميعا قوة في بث الألفة بين الجزائريين ومحاربة خصوم الدين والوطن من الغلاة المنحرفين والطرقيين المبتدعين والانفصاليين الخائنين.
أوَّلُ هؤلاء هو الشيخ أحمد سحنون رحمه الله الذي جاهد الجهادين؛ جهاد الاستعمار وجهاد غريب الأفكار التي تجافي روح الشريعة الإسلامية وتنافي المرجعية الوطنية. الشيخ سحنون رحمه الله هو أحد رجالات جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي غرست فيه قيم الوسطية والوطنية غارفا من معين الشيخ الرئيس عبد الحميد بن باديس، وقد ظل وفيا لجمعية العلماء بعد رحيل مؤسسها وكان جنديا من جنودها في مرحلة رئاسة الشيخ البشير الإبراهيمي رحمه الله، وقد وظف قلمه وأدبه لنشر تعاليم الجمعية وبثها في أوساط الجزائريين بل وتسفيرها إلى دول عربية مجاورة.
وظل الشيخ سحنون وفيا لجمعية العلماء وقام بنشر تعاليمها التي تهدف إلى تعزيز الرابطة الوطنية ومقاومة الاستعمار في الأوساط الشعبية وفي أوساط النخبة، يقول في كتابه “توجيهات إسلامية”: «إن كل شيء كنا نعمله لهذا الشعب، وكل ما نبذله لهذا الوطن، إنما كان بوحي من روح الجمعية، ووفق الخطة التي رسمتها لتطهير هذه الأرض العربية المسلمة من وجوه الاستعمار ومن سيطرة الأجنبي”. إن أجل عمل قام به الشيخ سحنون هو تأسيسه لرابطة الدعوة الإسلامية الجزائرية في 17 فيفري 1989 وكان يروم من وراء ذلك جمع الحركات الإسلامية في رابطة واحدة من أجل القضاء على مظاهر التشرذم والصراع التي دبت بين رموزها، وكان الشيخ يأمل أن تلقى الرابطة استجابة من الحركات الإسلامية في أول عهدها بالتعددية السياسية، وقد حصل ذلك، ولكن سرعان ما عادت الأمور إلى سابق عهدها بسبب الحرص على حب الزعامة واختلاف التوجهات، ولكن حسب الشيخ أنه اجتهد فمن اجتهد وأصاب فله أجران ومن اجتهد وأخطأ فله أجر. إن تأسيس رابطة الدعوة الإسلامية الجزائرية كان اختيارا موفقا من الشيخ أحمد سحنون رحمه الله، ولكن حبذا لو كانت رابطة وطنية بعيدا عن هذا التوصيف الديني حتى لا يتم تأويلها تأويلا خاطئا أو تفسَّر على أنها اصطفافٌ ديني في مرحلة اضطراب سياسي وعدم استقرار اجتماعي.
ومن الرجال الخالدين، الشيخ أحمد حماني رحمه الله، فقيه الجزائر الذي طواه النسيان باستثناء ما قام به بعض تلاميذه، وما قامت به وزارة الشؤون الدينية، تذكيرا للأجيال بخصال هذا الرجل وتعريفا بفقهه ونضاله من خلال ملتقى: “المرجعية الفقهية والاستقرار الاجتماعي في فكر وفتاوى الشيخ أحمد حماني”، وما قام به المنظمون لملتقى: “الفتوى والمواطنة في فكر الشيخ أحمد حماني” الذي أشاد فيه المتحدثون بنبوغه في الفتوى وتميزه عن كثير من أقرانه. لقد ظُلم الشيخ حماني فلا يُذكر إلا في مناسبات عابرة لا توفّيه حقه مع أنه من فقهاء المذهب المالكي القلائل في الجزائر والمغرب العربي وكتابه “صراع السنة والبدعة” فيه من التأصيل الشرعي للأحكام الفقهية ما نفتقده لدى كثير من الفقهاء الذين بالغ محبُّوهم في إطرائهم وغالوا في تقريظهم ولم يبلغوا في فقه الفتوى ما بلغه الشيخ حماني.
لقد كان الشيخ أحمد حماني رحمه الله، وسطيا في فتواه، ولم يكن من الفقهاء المتشددين في الأحكام ولا من الذين تستهويهم ثقافة سبّ الحكام، بل كان حريصا على تعزيز الصلة بين الحاكم والمحكوم، حفاظا على عقد المواطنة وعُرى الرابطة الدينية والوطنية. ينحدر الشيخ حماني من الميلية التي أظهر أهلها عزيمة قوية وصلابة كبيرة في محاربة الاستعمار الفرنسي وكانوا علاوة على ذلك أشدَّ الناس تعلقا بعرى الدين فكان منهم المجتهد والعالم الجهبذ، وقد هيأ هذا للشيخ حماني جوا مناسبا لحفظ القرآن والتفقه في الدين وزاده انضمامه إلى حلقات الشيخ عبد الحميد بن باديس في الجامع الأخضر تعمقا في الشريعة ونبوغا في الفتوى.
ناضل الشيخ أحمد حماني رحمه الله في صفوف الطلبة الجزائريين والتونسيين في أثناء وجوده في تونس ضد السياسة الاستعمارية التي تعتبر الجزائر وتونس “أرضا أوروبية”، وحوكم بتهمة العصيان والفرار من التجنيد الإجباري والتعاون مع العدو (ألمانيا) ولكنه نجا وإخوانه فاستفاد بعضهم من البراءة واستفاد بعضهم الآخر من الحكم المخفف، ولم يكن اتصال الشيخ وجماعته بالألمان إلا من أجل المصلحة الوطنية وكسر شوكة فرنسا، فلما تبيَّن لهم خبث الألمان، قطعوا الاتصال معهم وخاصة عندما علموا أن الألمان والفرنسيين سيَّان في اعتبار أرض إفريقيا “حقا خالصا للأوروبيين”. توفي الشيخ أحمد حماني يوم الاثنين 29 جوان 1998 فرحمة الله عليه في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
ومن الرجال الخالدين، الشيخ محمد بلكبير رحمه الله الذي ترك بصمات واضحة في” تمنطيط” حاضرة توات التي تتلمذ فيها على الشيخ أحمد ديدي وفي تلمسان التي تتلمذ فيها على الشيخ عبد الرحمن بن بوفلجة. لقد حرص عبد الله والد الشيخ محمد بلكبير على أن يأخذ ولده محمد بحظ وافر من العلوم الشرعية التي تُدرس في تمنطيط وقال له عند توديعه: “إذا كنت للعلم طالبا، وللخير سائلا، فليس لك بدّ من الوقوف والجلوس عند بحر البحور، والنزول عند عالم الأعلام، تستفيد من معارفه وتغرف من كمالاته”. والعالم المقصود هنا هو الشيخ أحمد ديدي الذي ذاع صيته في ذلك الوقت. لقد كثُر عطاء الشيخ بلكبير وجهاده في سبيل الدين وكانت له مساهمة كبيرة في تأسيس المساجد لإيمانه بأنها تمثل الحصن الحصين ضد مشاريع المسخ الحضاري التي تمارسها الإدارة الاستعمارية، ومسجد محمد بلكبير في أدرار لا يزال شاهدا على أفضال هذا الرجل وتفانيه في خدمة الدين، وهو جامع وجامعة وزاوية، جامع للصلوات، وجامعة للعلوم الشرعية وزاوية يأوي إليها عشاق الحضرة النبوية من غير إسفاف أو خروج عن مقتضى الشرع الحنيف. توفي الشيخ بلكبير رحمه الله في 15 سبتمبر 2000، وقد رسَّمت السلطات العليا هذا التاريخ للاحتفال باليوم الوطني للإمام، رحم الله الشيخ محمد بلكبير وجعله من الذين تبيّض وجوههم يوم القيامة.
ومن الرجال الخالدين، الشيخ عبد الرحمان الجيلالي رحمه الله الذي استمتعنا بحديثه الديني عبر أثير إذاعة الجزائر. جمع بين الثقافة الدينية والثقافة التاريخية والثقافة الإعلامية، هو “ذاكرة الأمة” كما سماه الباحث مولود عويمر الذي أرّخ لحياة كثير من رجالات جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ورجالات الجزائر بصفة عامة.
عُرف عبد الرحمان الجيلالي بدروسه الإذاعية والمسجدية، كما عُرف أيضا بإنتاجه العلمي وخاصة ما يتصل بتاريخ الجزائر، وكتابه: “تاريخ الجزائر العامّ” يحوي كثيرا من المشاهد ويغطي كثيرا من المراحل التاريخية التي مرت بها الجزائر وكأني به يحاكي في هذا الكتاب محمد مبارك الميلي في كتابه: “تاريخ الجزائر في القديم والحديث”. كان الشيخ الجيلالي رحمه الله عضوا في لجنة الأهلّة بوزارة الشؤون الدينية وقد أحبّه كثير من الجزائريين وهو يمثّل لهم رمزا من رموز الجزائر. توفي الشيخ في 12 نوفمبر 2010، رحمه الله وأسبغ عليه شآبيب رحمته وجزاه عنا وعن الجزائر خير الجزاء.
ومن الرجال الخالدين الشيخ عبد الرحمان شيبان رحمه الله، الرجل الذي خدم التربية الإسلامية وجعل لها دورا أساسيا في تكوين الناشئة، وكانت عهدته الوزارية عهدة متميزة له فيها لمسات وإضافات لا يتسع المقام لذكرها، وكانت رئاسته لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين فتحا حقيقيا؛ إذ استطاع أن يحافظ على خطها الإصلاحي ونهجها التربوي ومزج بين القيم الإسلامية والوطنية محاكيا في ذلك ما ورد في بيان أول نوفمبر الذي أكد على تأسيس دولة ديمقراطية اجتماعية في إطار المبادئ الإسلامية. لقد جمع الشيخ عبد الرحمان شيبان بين علوم الشريعة والأدب، وكان أديبا لامعا وبلاغيا متميزا، وقد عيَّنه محمد البشير الإبراهيمي أستاذا للبلاغة والأدب العربي بمعهد الشيخ عبد الحميد بن باديس بقسنطينة سنة 1948، وكان من الكتاب الدائمين في جريدة “البصائر” وكانت معظمُ كتاباته تدور حول فلسطين القضية المركزية للأمة الإسلامية، وقد استمر الشيخ في دعم هذه القضية حتى في أحلك الظروف بسبب الهزائم التي مُنيت بها القوات العربية في معاركها ضد الكيان الصهيوني.
ظل الشيخ سحنون وفيا لجمعية العلماء وقام بنشر تعاليمها التي تهدف إلى تعزيز الرابطة الوطنية ومقاومة الاستعمار في الأوساط الشعبية وفي أوساط النخبة، يقول في كتابه “توجيهات إسلامية”: «إن كل شيء كنا نعمله لهذا الشعب، وكل ما نبذله لهذا الوطن، إنما كان بوحي من روح الجمعية، ووفق الخطة التي رسمتها لتطهير هذه الأرض العربية المسلمة من وجوه الاستعمار ومن سيطرة الأجنبي”.
للشيخ عبد الرحمان شيبان فضلٌ كبير في بعث مشروع جامع وجامعة الأمير عبد القادر، وهذا ما تضمنته مقالات الباحثين في كتاب الدفعة التي حملت اسمه. توفي الشيخ شيبان في 12 أوت 2011، رحمه الله وطيَّب ثراه.
ومن الرجال الخالدين، الشيخ محمد الشريف قاهر وقد كتبتُ عنه مقالا تأبينيا منذ بضع سنين في جريدة “الشروق” بعنوان: “محمد الشريف قاهر.. عالم آخر يرحل إلى العالم الآخر”، والشيخ قاهر هو الرجل الذي شرَّف منطقة القبائل وأبان عن معدن أهلها النفيس وعن نضالاتهم بالغالي والنفيس من أجل الجزائر، ولا يزال لسانه رطبا بذكر الجزائر إلى أن أسلم الروحَ لبارئها، ولم يُعهد عنه أنه خاض فيما يخوض فيه بعض المفكرين مما يسمّى “جدل الهوية” لأنه كان يؤمن بأن بيان أول نوفمبر والدستور الجزائري قد حسم أمرها ومن ثمّ من العبث إثارة الجدل حولها. توفي الشيخ قاهر في 23 ديسمبر 2016 فرحمة الله عليه وإلى عليين في جنات النعيم.
ومن الرجال الخالدين، الشيخ أبو عبد السلام الذي كتبتُ عنه مقالا تأبينيا في “الشروق اليومي” بعنوان: “وداعا شيخنا أبا عبد السلام”، ومما أضيفه في هذا المقام أن الشيخ وثلة من مشايخ الجزائر قد نذروا أنفسهم لخدمة الدين والوطن، فهم مثالٌ للعالم العامل الذي يترك في حياته في قلوب محبيه آثارا طيبة ويترك عند موته في نفوسهم حزنا شديدا لأن مثل هؤلاء عملة نادرة في زمن كثر فيه لصوص النصوص والمتاجرون بالدين والبائعون للوطن. توفي الشيخ أبو عبد السلام في 11 أكتوبر 2022 فإلى جنات النعيم وربّ رحيم.
محمد بوالروايح
2022/12/27