القاموس الحيّ محمد الهادي الحسني
الألسنة – أي اللغات – هي إحدى آيات الله الكبرى في هذا الوجود، وهي متعددة كتعدّد ألوان البشر، وتختلف فيما بينها غنى وفقرا.
يقول أهل الذكر في هذا الميدان من العرب والعجم أن اللسان العربي هو أغنى الألسنة، بل هو أجملها، ألم يقل الشاعر أحمد شوقي الأعجميّ عرقا، العربيّ لسانا:
إن الذي ملأ اللغات محاسنا
جعل الجمال وسرّه في “الضّاد”.
ويكفي دلالة على ذلك اصطفاء الله – العليم الحكيم – هذا اللسان المبين ليكون لسان آخر كتبه للعالمين، لما فيه من غنى ودقة لا يوجدان في غيره، وهو ما عبّر عنه الشاعر حافظ إبراهيم بقوله:
وسعت كتاب الله لفظا وغاية
وما ضقت عن آي به وعظات
لقد أقبل أسلافنا الأمازيغ على دراسة هذا اللسان وفهمه و”تقعيده”، لأنه الوسيلة الوحيدة لفهم دينهم الإسلامي – قرآنا وسنة – وكتبوا مؤلفات في هذا اللسان، ومنها ألفية العالم الجزائري يحي بن عبد المعطي الزواوي (1169-1231)، وهي أول ألفية في النحو العربي، والجوهر المكنون في الثلاثة فنون للشيخ عبد الرحمن الأخضري البسكري (1514- 1575)، وغيرهما.
وممّن نبغ من أبناء الجزائر في هذا اللسان العربي في النصف الأول من القرن العشرين العالم الكبير عبد القادر المبارك بن محمد المبارك، والد محمد المبارك ومازن المبارك.
ولد هذا العالم الجليل في دمشق في 1887، بعدما هاجر أهله إليها نتيجة لما حلّ بالجزائر من تدنيس باحتلال الفرانسيس لها.
وأصل هذه الأسرة المباركة من مدينة دلس، وقد أنجبت عدة علماء أبرزهم الوالد عبد القادر وولداه مازن، العالم اللغوي المعروف، ومحمد الذي كان وزيرا للزراعة في سوريا، ثم عميدا لكلية الشريعة الإسلامية في عدة جامعات، وهو ممن وضعوا برامج جامعة الأمير عبد القادر بقسنطينة، وقد كانت عندي نسخة من هذا البرنامج بخط يد الدكتور محمد المبارك، واستعارها مني أحد الذين لايردّون الأمانات إلى أهلها، وهو ممن يأمر بالمعروف ولا يأتيه.
يشهد الشيخ علي الطنطاوي في عدة أماكن من “ذكرياته” أن الشيخ عبد القادر “كان إماما في اللغة، صدرا بين الرواة”، مما أهله ليكون من أبرز أعضاء “المجمع العلمي العربي” في سوريا. وقد ترك عدة آثار علمية لم يطبع منها إلا القليل، و”قليله لا يقال له قليل”، كما أن له نظما “فيه جودة” كما يقول خير الدين الزركلي صاحب كتاب الأعلام.. وقد توفّى الله الشيخ عبد القادر المبارك في 1945..
لقد سمّى الشيخ علي الطنطاوي في مذكراته الشيخ عبد القادر المبارك “القاموس الحيّ” و”الإمام اللغوي”، وهو أحد تلاميذه، وملخص شهادته فيه هو: “أما المبارك فقد كان الإمام في اللغة، والمرجع فيها، قيّد أوَابِدها، وجمع شواردها، وحفظ شواهدها، وكان أعلم العرب بالعرب، عرف أيامهم، وروى أشعارهم، وكان المقرة العلم في بابته، لا أعرف نظيرا له في العلماء، تحس إذ تجالسه وتسمع منه كأن الأصمعي وأبا عبيدة قد تمثلا لك في جبته” (علي الطنطاوي، ذكريات، ج1، ص 156-157).
ذكرت هذا العالم الجليل وذكرت به بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية، فرحمه الله وأجلسه إلى جنب أفصح من نطق بالضاد، محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام.