أُثر عن الحسين بن عليّ -رضي الله عنه- أنّه كان يوصي النّاس قائلا: “اعلموا أنّ حوائج النّاس إليكم من نعم الله عليكم، فلا تملّوا النّعم فتتحوّل إلى غيركم”.. وهي الوصية الجامعة التي استفادها ريحانة الأمّة من قول جدّه المصطفى صلّى الله عليه وآله وسلّم: “إنّ لله أقواما اختصهم بالنّعم لمنافع العباد، يقرّهم فيها ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم، فحوّلها إلى غيرهم”، وفي لفظ آخر: “ما من عبد أنعم الله عليه نعمة فأسبغها عليه، ثمّ جعل من حوائج النّاس إليه، فتبرّم، فقد عرّض تلك النعمة للزّوال”.
قد ينعم الله -جلّ وعلا- على عبد من عباده، ويغدق عليه من فضله، ويفتح له من خزائنه ما يغنيه، ثمّ يبتليه بأصحاب الحاجات، يطرقون بابه، ويطلبون إعانته، أو يمكّنه من مقام أو وظيفة تُقضى عن طريقها حوائج النّاس في مصلحة من المصالح العامّة، فيصبح معروفا مشهورا، لكنّ الشّيطان ينسيه هذه النّعمة التي اختصّه الله بها لتكون سببا في دخوله الجنّة، ويلقي في قلبه الضّجر والتبرّم من كثرة من يطلب حاجته عنده، فيقابل النّاس بوجه كالح ومنطق جارح، ويتمادى في التنصّل من أداء واجبه بحجّة إلحاح الملحّين وكثرة المزعجين، فيخسر النّعمة وتتحوّل إلى نقمة عليه، تقوده إلى غضب الخالق وتجرّ عليه لعنات الخلق.
هذه الظّاهرة لم تعد خاصّة ببعض الأغنياء والموسرين الذين يطردون الفقراء عن أبوابهم، ولا بكبار الموظّفين الذين يستنكفون عن استقبال أصحاب الحاجات للنّظر في حوائجهم، لكنّها أصبحت عادة لكثير من صغار الموظّفين الذين يجلسون في مختلف المصالح خلف المكاتب، ليستعلوا على عباد الله، ويوجدوا لأنفسهم كلّ الحجج ليتخلّوا عن واجب خدمة الخلق، وهؤلاء ربّما يملي الله للواحد منهم حتى إذا حلّت به العقوبة كان عبرة لمن يعتبر؛ فمنهم من يفصل من وظيفته، ومنهم من يتحوّل من العزّ إلى مذلّة يتمنّى معها لو يحظى بسلامٍ أو ابتسامةٍ ممّن كان بالأمس يستعلي عليهم ويزدريهم بنظراته، ومنهم من يُبتلى بأمراض يتمنّى معها الموت ولا يجده، ومنهم من يسلّط عليه من هو أرقى منه مسؤولية فيذيقه ما أذاق بسطاء النّاس من جفاء وسوء معاملة.
إنّه لأمر مؤسف حقا أن ينحدر بعض المسلمين إلى هذا الدّرك، بينما يتحلّى كثير من الغربيين بأخلاق الإسلام في معاملاتهم، حيث يتفانى الموظّفون في خدمة من يرتاد مكاتبهم من بسطاء النّاس، ويتصرّف الواحد منهم كأنّه أجير عند من يطلب خدمته؛ يبشّ في وجهه ويخاطبه بألطف العبارات، حتى يمكّنه من الخدمة التي طلبها، أو يعتذر إليه اعتذارا يجعله ينصرف وقد شكر الموظّف وعذره.
فيا أخي الموظّف: اتّق الله في إخوانك، ويا من أغدق الله عليك من رزقه: اتّق الله في الفقراء وأصحاب الحاجات، أعنهم واقض حوائجهم أو اصرفهم بكلمات طيّبة، فالكلمة الطيّبة صدقة، واعلم أخَيَّ أنّه يُفتح لك من أبواب الخير والبركة وتبلغ من المنازل بقضاء حوائج النّاس ما لا يبلغه الصّائمون القائمون؛ روي عن الإمام الحسن البصري -رحمه الله- أنّه استعان به رجل في حاجة، فخرج معه، فقال الرجل: إني استعنت بابن سيرين وفرقد، فقالا: حتى نشهد الجنازة، ثم نخرج معك، قال: “أما إنهما لو مشيا معك لكان خيرًا”.. اتّعظ بعواقب غيرك قبل أن تكون عبرة للآخرين، واذكر يوما يحشر فيه المتكبّرون كالذرّ (صغار النّمل) تطؤهم الأقدام ويشفي الله منهم غليل المحرومين والفقراء.. تذكّر -أخي المؤمن- كلّما وجدت من نفسك نزوعا إلى التبرّم من حاجة النّاس إليك، أنّ مِن أسعد لحظات هذه الحياة الدّنيا، حين تسدي معروفا إلى أخ من إخوانك المسلمين، مهما كنت لا تعرفه، فيبتسم إليك ويلهج لسانه بشكرك والدّعاء لك، وينصرف وهو راض عنك، يروي أحدهم أنّه كانت له حاجة عند عبد الله بن شبرمة (ت: 761هـ)، فقضاها، فأتاه الرّجل ليشكره، فقال: على أي شيء تشكرني؟ قال: قضيت لي حاجة، فقال: “اذهب، إذا سألت صديقك حاجة يقدر على قضائها فلم يبذل نفسه وماله، فتوضأ للصلاة، وكبِّر عليه أربعًا، وعده في الموتى”.. وتذكّر في المقابل أنّك كلّما تنصّلت من عملك ورددت أصحاب الحوائج عن بابك ومكتبك، كلّما زاد همّك وغمّك وذهبت البركة من مالك وعمرك وأوصدت في وجهك أبواب السّماء.
سلطان بركاني
2022/12/07
تقييم:
0
0
مشاركة:
التعليق على الموضوع
لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...
...........................................
=== إضافة تعليق جديد ===
في موقع خبار بلادي نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين خدماتنا. وبالضغط على OK، فإنك توافق على ذلك، ولمزيد من المعلومات، يُرجى الاطلاع على سياسة الخصوصية.