عثمان سعدي الرجل الذي هام عشقًا في الوطن وفي اللغة العربية خير الدين هني 2022/12/06
ليس من عادتي أن أكتب عن الوجوه السياسية والعلمية والثقافية، التي رحلت عن الدنيا لغرض المجاملة وحسن الإطراء لحاجة في النفس، أو من أجل مجرد الكتابة وملء الفراغ، ولكني أكتب إذا كانت الكتابة وحسن الثناء يتساوقان مع أفضال من رحلوا وأقدارهم وجليل أعمالهم، وظلوا يصدحون بكلمة حقّ أمام من يزعجهم كلامُ الحق والفضيلة، حين يجفل الناس من البوح به رهبة أو رغبة أو تذمّما، ولا تسعفني الكتابة عن الراحلين إلا إذا علمت بخصالهم ومناقبهم وتضحياتهم الجسام وإيثارهم ما هو لغيرهم عما هو مخصوص بهم، وذكرهم الناس الخلّص بطيب الكلام والذكر الحسن.
وكم آلمني رحيل الفقيد عثمان سعدي -رحمه الله وطيّب ثراه وأسكنه فسيح جنانه- عن دنيانا، ولا اعتراض عن المشيئة العليا وإنا لله وإنا إليه راجعون، وقد ترك الفقيد الساحة فارغة من غير إنابة ليمرح فيها الفوضويون والمشاغبون ومن لا خَلاق خير لهم، من المؤدلجين المشحونين بغرائز العصبية والشوفينية والفرانكمانية، وقد ترك رحيله أثرا عميقا في نفوس النخبة الوطنية من المثقفين والسياسيين والوطنيين الغيورين على تاريخ الأمة وأمجادها، وتراثها وكينونتها الهوياتية بجميع عناصرها ومكوِّناتها، لقد كان الفقيد يجمع بين صفاء الذهن وتوقد القريحة وصدق النية، ومضاء العزيمة ووفرة المعرفة وفنون الدبلوماسية، وخالص الحب للوطن والأمة واللغة العربية التي هام في عشقها، بعد أن أتقن علومها وتعمّق في فنونها وحذق آدابها وتذوّق روعة جمالها وبيانها وبلاغتها، وقارن بين سحر كلماتها وعذوبة ألفاظها ونظم أنساقها وتتابع ترادفها، وبين غيرها من اللغات الأجنبية الكبرى التي أتيح له أن يتعلمها في الجزائر والقاهرة ويتعمق في مدلولاتها المعنوية من طريق المطالعة في المظان، والاحتكاك بالدبلوماسيين والسياسيين والمثقفين كتّابا وشعراء ومبدعين.
وقف بنفسه على الفوارق الكبيرة، في فنّ التأليف وبديع التدبيج والترصيع، إنشاء وتعبيرا وخطابة وبيانا وحقيقة ومجازا واستعارة، بين العربية التي تتيّم بهواها وعشقها حتى الهوس، وبين غيرها مما تعلمه، كما وجد الفرق كبيرا بين قواميس هذه اللغات، إذ ألفى القاموس العربي يتجاوز 12 مليون كلمة، بينما يتراوح قاموس اللغات الكبرى التي تعلمها بين150 ألف و600 ألف كلمة، لذلك حمل العبء وحده لينافح عن هذه اللغة التي حوت القرآنَ بغزارة معانيه وألطاف كلماته ودقة عباراته، حواها بأوجز الكلمات وأكمل الدلالات وأبلغ البيانات، ووجد الحديثَ النبوي الذي هو من نوع كلام البشر، تأليفا وتدبيجا وتنسيقا، ولكنه سما عنه بالإيجاز غير المخلّ وبالإطناب غير المملّ، ووضوح المعنى وجمال المبنى وإشراقة الروح والمغزى ودلالة المرمى، ووجد الشعراءَ هاموا بحبها والكتّاب تتيّموا بسحر بيانها، وقد تغنوا بجميل كلِمِها وجواهر ألفاظها، وسعة أزوادها، حتى قال فيها شاعر القومية العربية حافظ إبراهيم:
رجعت لنفسي فاتهمت حصاتي *** وناديت قومي فاحتسبت حياتي
رموني بعقم في الشباب وليتني *** عقمت فلم أجزع لقول عداتي
وولدت فلما لم أجد لعرائـــســـي *** رجـالاً وأكـفــاءً وأدت بـنـــاتي
ووسعت كتاب الله لفظاً وغــايــة *** وما ضقت عن آيٍ به وعظات
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة *** وتنسيق أسماءٍ لـمخـتـرعــات
أنا البحر في أحشائه الدر كامن*** فهل سألوا الغواص عن صدفاتي
فيا ويحكم أبلى وتبلى محاسني *** ومنكم، وإن عـز الـدواء، أسـاتـي
أيطربكم من جانب الغرب ناعب *** ينادي بوأدي في ربيع حياتي؟!
وفقيدُ الأمة وحامي حماها ولغتها وذمامها، والمنافح عن كيانها وكينونتها وعناصر هويتها عثمان سعدي –رحمه الله- عرف قدر هذه اللغة كما عرفها من قبل حافظ إبراهيم، الذي تغنى في قصيدته بأمجادها وأفضالها ومحاسنها وغزارة مفرداتها وسعة ترادفها وبُعد أفقها، وسمو بيانها وتنسيق كلماتها، وفقيد الأمة سعدي دبّج المقالات الطوال عن محاسن اللغة العربية، ودورها الفعال في بناء نهضة علمية وفنية وثقافية وفلسفية، أشرقت على الدنيا وعمّت ربوعها لما يقرب من ألف سنة كاملة، ومن عرف قدر شيء عظّمه وأجلّه وأكبره وزكاه، ومن جهله عاداه كما يقول المثل الشائع.
ولا مندوحة للفقيد من أن يُعظِم شأن اللغة التي عرف قدرها وفضلها وعلو كعبها، ولا مندوحة له من جهة أخرى من أن يقف كالطود الأشم في وجه الطابور الخامس، المعادي لمشاعر الأمة وكينونتها وهويتها ومقوماتها الضاربة في عمق التاريخ، كما لا غنى له من أن يجمع قوته ويحزم أمره ويمضي في عزيمته ويحرم نفسه، من شرف المنصب وأبّهة المظاهر الاستعراضية التي يسعى إليها كل طالب للقربى والزلفى والظهور على حساب المبدأ والشرف، فالفقيد واحد من أبرز وجوه العلم والدبلوماسية والمقامات الرفيعة، ولكنه أبى أن يضحي بمبدأ أعلى آمن به وشغل باله وعقله وحرك ضميره مقابل عرض زائل، وقد شبع من وجاهة المنصب وصحبة الأعيان وكبار القوم، لذلك اختار السير على درب الفضيلة المحفوفة بالمكاره وعداوة وجوه القوم، وأختار طريق النضال من أجل مبدأ أسمى كان يؤمن به، وهو خدمة العربية وتطويرها وتعميمها في الاستعمال السياسي والإداري والاجتماعي.
ترك رحيله أثرا عميقا في نفوس النخبة الوطنية من المثقفين والسياسيين والوطنيين الغيورين على تاريخ الأمة وأمجادها، وتراثها وكينونتها الهوياتية بجميع عناصرها ومكوِّناتها، لقد كان الفقيد يجمع بين صفاء الذهن وتوقد القريحة وصدق النية، ومضاء العزيمة ووفرة المعرفة وفنون الدبلوماسية، وخالص الحب للوطن والأمة واللغة العربية التي هام في عشقها، بعد أن أتقن علومها وتعمّق في فنونها وحذق آدابها وتذوّق روعة جمالها وبيانها وبلاغتها.
وقد وجد معارضة شديدة من الطابور الخامس، المندسين في الدوائر السياسية والإدارية والإعلامية والثقافية والجمعوية، ونالوا منه واتهموه بكل فريّة هو بريئ منها، وقد كُتبت له الحسنى في الدنيا بالذكر الحسن من قبل الخيّرين من أبناء هذا الوطن الغيورين على تراثهم اللغوي والثقافي والحضاري، الذي ظل يدافع عنه الفقيد –رحمه الله- طوال حياته، وقد أسس جمعية الدفاع عن اللغة العربية، وظل يرافع عنها وعن خطها الثقافي بالكتابة والمحاضرة والندوات، ولكن لم يُكتب لها النجاح لأنها حوصرت وضُيّق عليها وضُنَّ عليها بكل شيء، وازداد أمرها سوءا أن تخاذلت عنها النخبة المعربة، ممن لهم اليد الطولى بالجاه والوجاهة وقوة التأثير في المؤازرة والوقوف إلى جانبها والاستبسال بقوة الكلمة والنضال، من كبار المثقفين ورجال الحكم والسياسة إما رغبة عنها أو رهبة مما قد يضرّ بمآربهم الخاصة، كما تلقت معارضة شديدة من الطابور الخامس ممن يملكون قوة الحركة ومصير القرار، من الفرانكوش والفرانكومان الذين ابتليت بهم الأمة.
ولكن الطيور تقع على أشكالها، وكل يفري فريه بما يؤدي إلى رَبعة أثافيه، وسيقيّض الله رجلا عالما أو مثقفا عالي التأهيل، يملك مواهب الكتابة وقوة الكلمة وجرأة الصدع بقول الحق والصدق في الحكم على القضايا والأشياء، فيكتب سيرة هذا الرجل الفذّ الذي جمع الفضائل كلها، كالفضائل الدبلوماسية والثقافية والمبدئية ونافح عنها بكل حزم وعزم وصدق، وضحى بمصالحه الخاصة وبمتعة الحضور مع الأعيان وكبار القوم في الاحتفالات الدينية والوطنية، كل ذلك من أجل الدفاع عن لغة عشقها ومات مُتيَّما بهواها وحبها، وأوقف حياته يدافع عنها وعن جواهرها النفسية التي أرادوا وأدها وهي حيّة حبلى بالخير والعطاء الكثير.
ولِمَ لا تُكتب عنه رسائل بحث جامعية، وماذا ينقصه وقد جمع فضائلَ الخير كلها؟ فهو يستحق بجدارة أن تولى له العناية لمكانته وقدره ونضاله ومواقفه المبدئية، لأن العظمة ليست فراهة في الجسم أو ضخامة في البنية أو نضارة في الصورة، وإنما هي فعل وعمل وسلوك ومواقف مشرّفة، يكتسبها العظماء حينما يحملون هموم أوطانهم وشعوبهم وقضاياهم العادلة، لقد تغرّب فكتور هيغو في البلدان والجزر مدة عقدين من الزمن، لأنه عارض الدكتاتورية الملكية التي انقلبت عن مبادئ الثورة الفرنسية، ولم يقبل العودة إلى بلده رغم الإغراءات التي قُدِّمت له، ولم يعد حتى انتصر الثوار من جديد، فلما عاد حملوه على الأكتاف كما يُحمل الأبطال الثوريون العائدون من المنافي أو السجون بأكاليل النصر والغار، ومنذ لك اليوم سُجِّل مع الخالدين في دواوين التاريخ.
وكل عظيم ممن حملوا قضايا أممهم على عواتقهم، ستبقى أسماؤُهم مخلّدة ولو كره المعارضون المشاغبون، وفقيدنا المرحوم بإذن الله، سيسجَّل مع الخالدين في دواوين التاريخ وإن أبى المناوئون له، لأن التاريخ لا يحفل إلا بالعظماء الذين يتركون أثرا عظيما في أممهم، سواء أرضي عنهم المناوئون أم سخطوا، ويزداد التاريخ حفاوة واحتفاء بالعظماء الأفذاذ ممن تحملوا هموم أممهم وقضاياهم العادلة وحدهم، من غير ظهير ولا نصير ولا معين، ويتعرضون في نضالهم وكفاحهم إلى شتى ألوان التضييق والحصار والمقاطعة والتهميش، فهؤلاء هم العظماء حقا، وهؤلاء هم من ينالون المجد والذكر الحسن، أما المناوئون لمشاريع الأمة وعظمائها المخلصين ممن مسّهم المسخ والفسخ والسلخ وغيّروا وبدّلوا وانقلبوا على أعقابهم وتأدلجوا بالعصبيات والاستغراب، فأولئك هم من سيسحقهم التاريخ ويرميهم في طيات النسيان، ولا ينالون التبريك والتزكية وسوف يلحقهم العار وسخط الناس والذكر السيئ.