فضاءات زحر

زحر

فضاء الموروث الثقافي الشعبي

العضو الأكثر فعالية على مستوى الـبلدة
علي هزايمه
مسجــل منــــذ: 2011-06-24
مجموع النقط: 671.04
إعلانات


الاستاذ علي هزايمه-موسم قطاف الزيتون

.. موسم قطاف الزيتون

أينما سرت وحللت في هذه الأوقات لا ترى سوى العاملين في حقول الزيتون، أشجار نفضت عنها حباتها وأخرى تنتظر، حُصر وبُسط وملاءات مفروشة تحتها لتخفف من معاناة التقاط حبات الزيتون حبة حبة من بين الأعشاب والأشواك، مهام محددة يجري توزيعها على العاملين، رجال ونساء وأطفال انتزعوا أنفسهم من الأسرَّة والبيوت أو أُكرهوا على ذلك. معلمات ومعلمون، موظفات وموظفون وفروا إجازاتهم لهذه المناسبة، الجميع بحاجة لمثل هذه الفرصة العزيزة لتأمين دخل إضافي قبل قدوم الشتاء بأمطاره الغزيرة ورياحه الجافة.

الموسم وافر هذه السنة، فالطبيعة جادت بسخاء، بخلاف ما يحصل في كافة مناحي حياةٍ لا تشبه الحياة، وكأنها تريد القول: أنا أمكم الحاضرة لتمنحكم الخير والحنان، يا من جحدتم بي وقطعتم أشجاري ولوثتم جناني، وجنيتم على أنفسكم وعلى الأجيال من بعدكم، وها أنا أمنحكم هذه الفرصة الأخيرة!

لكن الفرح لا أثر له في مواسم هذه الأيام، فالأغاني التي كانت تُسمع في الحقول وتتردد أصداؤها في الجبال والوديان تحولت إلى آهات وبحات وغصات، وغابت معها الضحكات والنكات والتلميحات التي تثلج الصدور وتخفف من آثار التعب وتوقظ الرغبات، مقارنةً بما كان:

فوق الزيتونة تحت الزيتونة

يا حبة خضرا صارت عيطونة

بدك تنامي نامي يا عيوني

موعدنا بكرا تحت الزيتونا.

والنساء التعبات ينتصبن بصعوبة، بعد التقاط الحبات لساعات في وضعيات منهكة، يحاولن حماية ظهورهن بربط ستراتهن وكنزاتهن حول الخصور، اتقاء لغدر نسمات تشرين الباردة وأثرها في إحداث تشنج العضلات. لكن المكافأة حاضرة دوماً في فقدان بعض الأوزان، واكتساب المزيد من ليونة الحركات ورشاقة الأجساد قبل قدوم الشتاء أيضاً.

رائحة الزيت تعبق في الطرقات وحول المعاصر المختنقة بأكياس الزيتون من حولها، لا تتوقف إلا حين تتعطل آلاتها لتحل أخرى مكانها بأسرع ما يمكن، وآثاره موجودة على مقاعد السيارات وصناديق الشاحنات، وعلى الألبسة وفي البيوت، تعلق بشعور النساء واللحى غير المحلوقة للرجال، وتترك آثارها على حقائب التلامذة وكتبهم ودفاترهم، وتغيِّر من طعم مؤخرات أقلام الرصاص المعلوكة انتقاماً من مناهج التحفيظ والتلقين المدرسية، ولسان حالها يقول: حذار من التفكير والتغيير!

الزيت مقدَّس أيضاً، وكل ما يُمسح به يصبح كذلك، وقد صنعه هارون وموسى حسب أمر الرب، وبه تحل روح الله على الناس والأشياء. وظهوره في الكنائس يعني حصول المعجزة، بينما يكفي ظهور الماء في المزارات للدلالة على معجزات الأولياء القابعين في رحابها، في بيئة مطيرة تنضح فيها حتى الصخور بالماء شتاءً! والزيت يحن دوماً للحبات التي أنجبته، ويعود ليجتمع بها على الموائد، فصار مثلاً يُقال تعبيراً على الانسجام والوئام: زيت على زيتون.

وكافة الأعمال الأخرى مؤجلة لحين انتهاء موسم القطاف، فالنهارات قصيرة لا تكفي إلا للقيام بما هو ضروري. حتى الأفراح عليها أن تنتظر انتهاء موسم الزيتون، والفرحة الأهم هي تأمين الزيت لتحقيق بعضٍ من متطلبات الأمن الغذائي المفقود، فهو حاضر على جميع الموائد، ومعجون بالزعتر في سندويشات الحقائب المدرسية، وجاهز لتليين المفاصل، وغير ذلك من الوصفات. لكن المصيبة تأبى أن تبقى بعيدة، ومخلفات المعاصر لم توفر مياه منطقة الدريكيش الجوفية وينابيعها المعدنية الفريدة، في غفلة عن حراسها أو لمصلحة عناوين الفساد.

ولا مكننة تُذكر لتخفيف الجهد وتسهيل الأعمال، دورات العمل المضني تكرر نفسها منذ عقود عديدة، والأحمال على الأكتاف والرؤوس ما زالت حاضرة لتنهك الأجساد. استفحلت المشكلة بغياب الحمير عن مسرح الأحداث وتأكيد ذاتها في مثل هذه الظروف، الحمير التي اعتادت نقل الزيتون في منعرجات الطرق الجبلية التي لا تصلها العربات، وشاركت البشر الجاحدين أفراحهم وأتراحهم، وصبرت على ظلمهم خلال قرون من التدجين، وقد باعها أصحابها مثلما باعوا تراثهم وتقاليدهم في غمرة نشوة مزيفة لم تطل.

وللعربات أيضاً مشاكلها وهمومها، حيث يمكن أن تسير، وهي تبحث عن قطرات البنزين والمازوت كأنها لآلئ في عقد بلقيس امرأة الملك سليمان، بعد أن توقفت فيها حركة التاريخ وعادت القهقرى إلى ما كان في سالف الأزمان، حيث الخطط التنموية أشبه بعبث الأطفال، والقيمون عليها بيادق مأمورة في أحسن الأحوال، في بلد أضحت آلياته الاقتصادية، كما سياساته، عصية على الفهم والإدراك!

ماذا تنفع جبال اقتُلع منها سنديانها وبطمها لزراعة الزيتون، فيما اقتُلعت أشجار الزيتون في السهول لتُبنى المصانع مكانها! إنها التنمية وهي تقف على رأسها وترى العالم بالمقلوب، ولم تصلح لحماية الأوطان وصيانة كبريائها من غدر الزمان. وماذا تنفع أرض اقتُلع منها أهلها ليتحولوا إلى غرباء عن أنفسهم وعن الآخرين، غرباء حين رحلوا وغرباء حين عادوا، وعكسوا اضطرابهم وتشوشهم على الطبيعة المنكوبة بهم ومعهم.

كان يمكن للجبال أن تكون رائدة سياحة الأحلام، وتحتفي بذكريات شعرائها وقطعان ماعزها، كمُنتَجين عزيزين عبر التاريخ، وبناسها الذين خلطوا بين أرواحهم ونجوم السماء، لكنهم ما لبثوا أن تاهوا وغاصوا في وحل الحياة، في تاريخ لا يرحم المغفلين. الجبال التي كان بوسعها أن تقدم لزوارها الضيافة على أطباق عيدان القمح، وعلى أنغام أصوات كائناتها ونقاء هواءها وعذوبة مياهها، فتزدهر بحضور الضيوف ومحبتهم، وتنعم بالأمان والسلام، تاركة بنادقها مركونةً في زوايا بعيدة، احتراساً من غدر الزمن وحسب د. منير شحود


تقييم:

0

0
مشاركة:


التعليق على الموضوع


لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...

...........................................

=== إضافة تعليق جديد ===
الإسم:

نص التعليق:

انقل محتوى صويرة التحقق في الخانة أسفله:
الصورة غير ظاهرة