أسباب كثيرة أدّت إلى حبس المطر في السّنوات والأيام الأخيرة، لعلّ أهمّ سبب ينبغي لنا نحن المؤمنين خاصّة أن نقف عنده هو كثرة إفسادنا في الأرض، حتّى فقنا الأمم الكافرة في بعض الميادين! وهذا الجفاف إنّما هو إنذار لعلّنا نرجع ونتوب ونتحوّل عن الحال التي نحن عليها إلى حال ترضي الله جلّ وعلا.. كلّنا معنيون بالتوبة.. لا أحد ينبغي أن يستثني نفسه.. ما منّا من أحد إلا وهو بصير بنفسه، يعلم عيوبها وغدراتها. يقول الله تعالى: ((وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)) (الأعراف: 96).
جميعنا مدعوون إلى التوبة والخضوع والتذلّل لله، وإلى كثرة الاستغفار بالليل والنّهار، نرجو أن يرفع الله غضبه عنّا ويغيثنا من فضله.. كلّنا مدعوون إلى استشعار خطورة الحال التي نحن فيها من جفاف وقحط.. كلّنا معنيون، وسنعاني جميعا لو استمرّ البلاء لا سمح الله، لذلك فنحن في حاجة لأن نظهر لله حال الاضطرار، لعلّه سبحانه يجيب دعواتنا: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾ [النمل: 62].
مولانا -سبحانه- رؤوف رحيم؛ يريد منّا أن نتوب ونصلح ونتمسكن له ونظهر له الفقر ونبكي بين يديه، روى ابن عساكر بسند صحيح أن الضحاك بن قيس خرج يستسقي بالناس، فقال ليزيد بن الأسود وكان رجلا صالحا كثير البكاء: “قم يا بكاء”؛ فما دعا يزيد بن الأسود إلا ثلاثا حتى أمطروا مطرًا كادوا يغرقون منه”.. هذه هي الحال التي يحبّها الله؛ حال البكّائين الخاشعين.
جميعنا نعرف السّبب في هذا الجفاف، ونعلم أنْ لا مخرج لنا بعد رحمة الله إلا بالإصلاح؛ لكنّ المشكلة أنّ كلّ واحد منّا ينظر إلى عيوب النّاس من حوله وينسى نفسه.. يقول قائلنا: “بنات النّاس عرايا”، وينسى أنّ بناته يتفنّنّ في الحجاب.. يقول: “آك تشوف في النّاس مهمّلة ولادها”، ولا يلتفت إلى أبنائه الذين أرهقوا النّاس بطيشهم، ولا يعلم عن أحوالهم الخاصّة إلا القليل.. يقول: “الناس راهي تاكل الحرام”، وهو في عمله يسرق طولا وعرضا ويتهرّب ويتحايل.. يقول: “الناس ولات تشهد بالزور نورمال”، وهو لا يكاد يسمع باثنين متخاصمين، حتى ينطلق ليوسّع الهوة بينهما!
ينبغي لكلّ واحد منّا أن ينظر إلى نفسه على أنّه أسوأ النّاس حالا، وأنّ المطر قد حبس بسببه هو، وينظر إلى تقصيره وذنوبه ومعاصيه قبل أن ينظر إلى ذنوب الآخرين.. ليرجع كلّ واحد منّا إلى نفسه ويجلس معها محاسبا، كما يحاسب الشريك شريكه الخائن، وليبحث عن دين الله في قلبه وجوارحه وأقواله وأفعاله، وليفتّش عن الإسلام في بيته: في حال زوجته وأبنائه وبناته، في تلفاز بيته، في هاتفه، في سيارته، في تجارته، في مكان عمله.. لينظر في صلاته، هل يصليها في وقتها؟ هل يتمّ ركوعها وسجودها، هل يجاهد نفسه على الخشوع فيها؟ هل يستمتع بها أم إنّه يتعذّب بها؟ لينظر في حرصه على الرواتب والنوافل.. لينظر إلى مصحفه الذي سيتركه بعد موته، هل تغيرت أوراقه من كثرة تقليبها أم إنّها لا تزال جديدة؟ لينظر في علاقته بأمّه المسكينة، بأبيه المتعب المرهق، بإخوته وأخواته، أقاربه وجيرانه.. ليتذكّر ديونه عند الباعة؛ هل هو فعلا عاجز عن سدادها وأدائها أم إنّه يتهاون ويتكاسل؛ يشتري الكماليات ويتوسع في المأكولات والمشروبات والملبوسات، وينسى الدّين!
ليصدق كلّ واحد منّا نفسه.. كفانا تغطية للشّمس بالغربال.. ما منّا من أحد إلا سيقف وحيدا بين يدي الله للحساب: ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا﴾.. يقول السري السقطي–رحمه الله-: “ما رأيت شيئاً أحبطَ للأعمال، ولا أفسدَ للقلوب، ولا أسرعَ في هلاك العبد، ولا أدومَ للأحزان، ولا أقربَ للمقت، ولا ألزمَ لمحبة الرياء والعجب والرياسة، من قلة معرفة العبدِ لنفسه، ونظرِهِ في عيوب الناس”، ويقول أحد الصّالحين: “من لم يتّهم نفسه على دوام الأوقات، ولم يخالفها في جميع الأحوال، ولم يجرها إلى مكروهها في سائر أوقاته، كان مغرورا، ومن نظر إليها باستحسان شيء منها فقد أهلكها”.
كلّ منّا ينبغي له أن ينظر إلى نفسه على أنّه شرّ عباد الله، وأنّ المطر قد حبس بسببه، كما كان الصّالحون يفعلون.. هذا أحد أئمّة التابعين، بكر بن عبد الله المزني -رحمه الله- إمام في العلم والزّهد والورع، ومع ذلك وقف بعرفة في الحجّ فقال: “لما نظرت إلى أهل عرفات ظننت أنهم قد غفر لهم، لولا أني كنت فيهم”.. ومثله أحد الصّالحين كان يقف في الحجّ بعرفة، فيقول: “اللهم لا ترد الناس لأجلى”.. والأعجب من هذا صحابيّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه- كان يقول: “لو تعلمون بعيوبي ما تبعني منكم رجلان؛ ولوددت أني دعيت عبد الله بن روثة وأن الله غفر لي ذنباً من ذنوبي”.
ذكر ابن أبى الدنيا عن الخلد بن أيوب قال: كان راهب في بني إسرائيل في صومعة منذ ستين سنة. فأتي في منامه. فقيل له: إن فلانا الإسكافي خير منك، ليلة بعد ليلة، فأتى الراهب الإسكافي، فسأله عن عمله. فقال: إني رجل لا يكاد يمر بي أحد إلا ظننته أنه في الجنة وأنا في النار.
وهذا الإمام الزاهد مالك بن دينار -رحمه الله- كان يقول: “لو أن مناديًا ينادي بباب المسجد: ليخرج شركم رجلاً، والله ما كان أحد يسبقني إلى الباب إلا رجلاً بفضل قوة أو سعي”، ومحمّد بن واسع إمام الزّهد والورع يقول: “لو كان يوجد للذنوب ريح، ما قدرتم أن تدنوا مني من نتن ريحي”.. السري السقطي–رحمه الله- يقول: “إني لأنظر إلى أنفي كل يوم مراراً مخافة أن يكون وجهي قد اسود”، وقال يوما لأصحابه: “ما أحبُ أن أموتَ حيثُ أُعرف”، فقيل له: ولم ذاك يا أبا الحسن؟! فقال: “أخاف أن لا يقبلني قبري فَأُفْتَضَح”.. أبو حازم الأعرج –رحمه الله- كان يخاطب نفسه فيقول: “يا أعرج، ينادى يوم القيامة يا أهل خطيئة كذا وكذا، فتقوم معهم، ثم ينادى يا أهل خطيئة أخرى فتقوم معهم، فأراك يا أعرج تريد أن تقوم مع أهل كل خطيئة”.
تقييم:
0
0
مشاركة:
التعليق على الموضوع
لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...
...........................................
=== إضافة تعليق جديد ===
في موقع خبار بلادي نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين خدماتنا. وبالضغط على OK، فإنك توافق على ذلك، ولمزيد من المعلومات، يُرجى الاطلاع على سياسة الخصوصية.