التديّن الصّادق، يقتضي أن يلزم المسلم دين الله في باطنه كما في ظاهره، في أخلاقه كما في عباداته، في علاقته بالله وبنفسه وبالنّاس من حوله، ويهتمّ بأعمال القلوب كما يهتمّ بأعمال الجوارح، ويجعل الشّرع حاكما لأفعاله وأحواله كما لأقواله، ويحمل همّ أمّته كما يحمل همّ نفسه؛ عملا بقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾.. هذا هو المفترض، لكنّ الأمّة في هذا الزّمان رزئت بألوان من “التديّن المغشوش”، لا تكلّف من ركن إليها همًّا يؤرّقه ولا نصَبا في مجاهدة نفسه، أصابت الأمّة في مقتل، وجعلت المسلمين -إلا من رحم الله منهم- كغثاء السّيل، لا تُخشى لهم صولة ولا يحسب لهم حساب!
في قرون مضت، روّج الاستعمار للون من التديّن المغشوش يقوم على الالتصاق بالتراب والتعلّق بالقبور والأموات، والولع بإشباع البطون في الوعدات والزردات، أربك الأمّة وأطال عمر الاستعمار في بلاد المسلمين.. وفي زماننا هذا لا تزال مراكز الدراسات التابعة للاستكبار العالمي توصي بدعم هذا النّوع من التديّن، لكنّ هذا الدّعم ينحسر لصالح أنواع أخرى من التديّن المغشوش تحصر الدّين في زاوية من الزّوايا، أو تستخدمه سلاحا تطعن به خاصرة الأمّة ويوجّه إلى صدور المسلمين.. من أبرزها:
1. التديّن العلمانيّ
هذا اللّون من التديّن روّجت له وسائل الإعلام في العقود الأخيرة عبر الأفلام والمسلسلات والحصص المختلفة، وهو تديّن يحتكم معتنقُه إلى الشرع عندما يتعلّق الأمر بالصّلاة والصيام والحجّ وأحكام الجنائز، لكنّه يحتكم إلى المصلحة الخاصّة وإلى “ما يفعله النّاس” عندما يتعلّق الأمر بالأموال والمعاملات والأحوال.. تجد من ارتضى هذا النوع من التديّن يعتمر وقد يحجّ، ويصلّي الصّلوات الخمس في المسجد، لكنّه عندما يتعلّق الأمر بالمال، تراه غير مبال بحرام من حلال؛ فالحرام بالنّسبة إليه هو ما عجز عن الوصول إليه، والحلال هو كلّ ما وصلت إليه يده؛ يأخذ الرشوة ويعطيها، ويقترض بالربا ويستفيد من القروض البنكية المباشرة وغير المباشرة.. ربّما تجده يبذل بعض الصّدقات في بناء المساجد، لكنّه في المقابل يخاصم إخوته وأخواته وبني عمومته -ظلما- في الميراث، ويخاصم جيرانه في حدود المسكن، وربّما تجده يبكّر يوم الجمعة ويسمع من الدروس والخطب ما يَعنيه، لكنّه يبرّر لنفسه ويتظاهر بأنّه غير معنيّ، وربّما تجده يظهر إعجابه بكلام الإمام، وقد يصاحب الإمام ويمشي إلى جانبه في الطّرقات العامّة، ويدخل عليه مقصورته من حين إلى آخر يسأل عن دقائق مسائل الصّلاة والصّوم، ليظهر للنّاس شدّة اهتمامه بدينه، وربّما زيادة على ذلك تجده يظهر الودّ وحسن المعاملة لكثير من النّاس من حوله، لكنّه مع والديه وزوجته وأبنائه فظّ غليظ خشن المعشر.
تجد المرأة تُرعي اهتمامها عندما يتعلّق الأمر بالحديث عن شروط صحة الصيام وعن مفسداته، لكنّها تلوي عنقها وقد تعترض بلسانها عندما يتحوّل الحديث إلى شروط الحجاب الشّرعيّ وحدود المعاملة بين المرأة والرجال الأجانب، وتقول بلسان الواثقة: “الدين ما هوش مظاهر”!!!
أتباع هذا النوع من التديّن، لسان حالهم: ﴿يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ﴾؛ فالدّين بالنسبة إليهم واجب التطبيق في العبادات كالصلاة والصّوم، لكنّه ليس كذلك في المعاملات التي يرونها محكومة بالمصلحة، وبما يفعله النّاس!
2. التديّن المظهريّ:
تجد المتعبّد بهذا النّوع من التديّن يهتمّ غاية الاهتمام بسمْته الذي يُصنّف على أنّه سمت للمتديّنين! والغالب أن يكون هذا “المتديّن” مخلصا في إصلاح مظهره، لكنّه في المقابل يعاني فتورا في قلبه وعباداته، ويجد ما يجده غيره من الناس من قسوة القلب وقحط العين، لا يتأثر بالمواعظ ولا برؤية أحوال الموتى ولا بدخول المقابر.. وربّما يتمادى الأمر به الأمر إلى فتور في العبادات الظاهرة؛ فتراه يأتي المسجد متأخرا ولا يصلي إلا في الصفّ الأخير، ولا يصوم من النوافل إلا الستة من شوال وعاشوراء وعرفة، وليس له حظّ من تلاوة القرآن ولا من نوافل الصّدقات، ولا تجد له أيّ مساهمة في أعمال الخير والبرّ؛ لا في بناء المساجد وتطهيرها ولا في حملات الإغاثة.. وفوق ذلك تجده لا يختلف عن عامّة النّاس في إخلاف الوعد والمماطلة في سداد الدّيون، بل قد تجده يأكل الحرام في مكان عمله أو في تجارته، لأنّه تعلّم تعظيم المسائل المتعلّقة بالمظهر ولم يتعلّم فضل لقمة الحلال وتعظيم الفرائض وأهمية الأخلاق. تعلّم أنّ حلق اللحية حرام وأنّ إسبال الإزار كبيرة من الكبائر(!)، لكنّه لم يتعلّم أنّ غيبة عامّة الناس كبيرة، كيف بغيبة العلماء والدعاة والمصلحين.. تعلّم أنّ لزوم السنّة يورد صاحبه الحوض، لكنّه لم يتعلّم أنّ السنّة تعني الطريقة والسيرة ولا تقتصر على اللحية والسواك وجلسة الاستراحة، ولم يتعلّم أنّ أقرب النّاس من النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- يوم القيامة هم أحاسنهم أخلاقا.. يقول الشيخ محمّد الغزالي رحمه الله عن معتنقي هذا النّوع من التديّن: “إنهم يسمعون أن شُعَب الإيمان بضع وسبعون شعبة، بيْد أنهم لا يعرفون فيها رأسا من ذنب، ولا فريضة من نافلة، والتطبيق الذي يعرفون هو وحده الذي يُقرون”.. والطّامة الكبرى أنّك تجد من ارتضوا هذا النّوع من التديّن ذاهلين عن واقع الأمّة وعن قضاياها وعن معاركها التي فرضت عليها، بل إنّهم يزيدون الطّين بلّة بإضرام نيران معارك داخلية تنهك جسد الأمّة؛ فتراهم لا شغل لهم إلا إعمال مباضع الجرح والتبديع في علماء الأمّة ودعاتها ومصلحيها الآمرين بالمعروف النّاهين عن المنكر المهتمّين بقضاياها الكبرى، وهذا التديّن الذي يحسب أصحابه أنّهم يحسنون صنعا، قدّر الشيخ الغزالي -رحمه الله- قبل أكثر من 3 عقود أنّه أنكى بالأمّة من الإلحاد الصّارخ.. قد لا يصل الأمر إلى الحدّ الذي قدّره الغزالي، لكنّنا نرى اليوم من آثاره المدمّرة في واقع الأمّة ما يكفي لاعتباره داءً فتّاكا.
التديّن المغشوش بأنواعه وألوانه، داء فتّاك وخطر ماحق، لأنّه يغري معتنقيه بأنّهم قد أدّوا ما عليهم، فلا يتوقون إلى إصلاح أو تغيير في أنفسهم أو في واقع الأمّة إلا في حدود القضايا التي يرونها أمّ القضايا، لذلك لا يبذل المتربّصون بالأمّة جهدا في صدّ معتنقي هذا التديّن عن تديّنهم، بل إنّه يشجّعهم على الثّبات والاستمرار، وعلى تسفيه من خالفهم وسلك غير سبيلهم.. لذلك نرى وسائل الإعلام بمختلف أشكالها تروّج للتديّن المغشوش بحسب الحاجة؛ فتستضيف دعاة التديّن العلماني وتمكّن لهم وتلمّعهم، فإذا ما خاب سعيها، استنجدت بدعاة التديّن الشّكليّ الطّائفي، لتتّخذهم سلاحا تواجه به أعداء العلمانية.
إنّه لأمر مطلوب ومفرح أن يهتمّ شبابنا بإصلاح مظاهرهم في زمن الانسلاخ والتقليد الأعمى لكلّ ما هو غربيّ، وليس يصحّ أبدا أن نتّهم كلّ مهتمٍّ بإصلاح مظهره بأنّه غاشّ في تديّنه، كلا، فهناك من عباد الله المسلمين من وفقوا للجمع بين تديّن المظهر وتديّن المخبر، بين القول والعمل، بين الاهتمام بالعبادات والتحلّي بفضائل الأخلاق، وهؤلاء وإن كانوا قلّة إلا أنّهم يقدّمون الدّليل على أنّ التديّن الحقيقيّ المتكامل ممكن مهما تعقّد الواقع واشتدّت غربة الدّين.. لكن في المقابل، لا ينبغي أبدا لشبابنا أن يقنعوا بأنّ إصلاح الظّاهر ولزوم سمت معيّن في اللّباس هو الغاية والمنتهى، ويظنّوا أنّهم قد بلغوا في طريق المجاهدة منتهاه، فيركنوا إلى حالهم وواقعهم ويغفلوا عمّا هو أهمّ وأثقل في الميزان وأحبّ إلى الله.
شرع الله يجب أن يكون حاضرا في أموالنا وأحوالنا ومعاملاتنا وأفراحنا كما يحضر في صلواتنا وصيامنا وجنائزنا، ويجب أن يكون حاكما لأخلاقنا وهمومنا وأولوياتنا كما يحكم مظاهرنا، وبهذا ننفع أنفسنا وديننا وأمّتنا، ونكون أرقاما مهمّة في تعداد المسلمين في العالم.. إنّه لأمر محزن ومحرج أن نتلاعب نحن المسلمين العرب بديننا ونتخيّر منه ما يوافق أهواءنا وما يسهل على أنفسنا، في الوقت الذي يقبل فيه المسلمون الأعاجم والمسلمون الجدد في الغرب على دين الله بكلّ جدية في واقع كثيرا ما يكون أصعب وأعقد من واقعنا، ونخشى أن يستبدلنا الله بقوم يأخذون دينه بقوة: ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾.
سلطان بركاني
2022/11/09
تقييم:
0
0
مشاركة:
التعليق على الموضوع
لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...
...........................................
=== إضافة تعليق جديد ===
في موقع خبار بلادي نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين خدماتنا. وبالضغط على OK، فإنك توافق على ذلك، ولمزيد من المعلومات، يُرجى الاطلاع على سياسة الخصوصية.