“ماكرون” وبدعة “التاريخ المشترك**ناصر حمدادوش 2022/09/07
من الأقوال الخالدة للشهيد “عباس لغرور” (1926م – 1957م): “اليوم الذي يمرُّ علينا دون أن نحارب فرنسا يُعتبر خيانة”، ونحن نقول: “اليوم الذي يمرُّ علينا دون تجريم الاستعمار يُعتبر خيانة”، إذْ لم تعرف البشرية احتلالاً وحشيًّا بشعًا كالاحتلال الفرنسي، وهو ما يفرض علينا القيام بثوراتٍ كانتقاداتٍ لاذعةٍ لثقافة النِّسيان، وعدم السَّماح بوقف تيار التاريخ في الجزائر، إذْ أنَّ الحديث عن جرائم فرنسا تعني الحديث عن جبالٍ من الجماجم، وبحورٍ من الدماء، وأنهارٍ من الدموع، فهو الإرث الدموي المسموم، الذي يرفض أن يُسمَّي: تاريخًا مشتركًا، يُسوَّي فيه بين الضَّحية والجلاَّد؟
إنَّ ما طرحه “ماكرون” خلال زيارته للجزائر أيام 25 – 27 أوت 2022م من تشكيل “لجنةٍ مشتركةٍ من المؤرِّخين” لكتابة “تاريخٍ مشتركٍ” بين الجزائر وفرنسا ما هو إلاَّ مكرٌ لربط الدولة الجزائرية بتكتيك المماطلة عن استحقاقات “الاعتراف والاعتذار والتعويض” عن بشاعة ذلك التاريخ الأسود.
لا يمكن إعادة كتابة التاريخ أو اختراع تاريخٍ جديد، فآثار جرائم الاحتلال الفرنسي لا تزال تسكن الذاكرة وتطارد مقترفيها، وأنَّ هذا التاريخ الفرنسي الوحشي لا يُنتِج إلا الآلام التي تأبى النسيان، فهو صفحةٌ مؤلمة لا يمكن قراءتها كماضٍ فقط، ناهيك عن استغلاله كملجأٍ لتبرير المواقف السِّياسية الرَّسمية في الحاضر والمستقبل.
وبالرَّغم من خطوات “ماكرون” الرمزية لتهدئة الذاكرة ومصالحتها، إذْ وصف في فيفري 2017م الاستعمار الفرنسي للجزائر بأنه “جريمةٌ ضدَّ الإنسانية”، ثمَّ أقرَّ رسميًّا سنة 2018م بأنَّ بلاده مسؤولةٌ عن إقامة “نظام تعذيب” خلال حرب الجزائر (1954م – 1962م)، كاعتذارٍ لزوجة “موريس أودان” أحد الشيوعيين الفرنسيين المساندين للثورة التحريرية، والذي قُتِل من طرف المظلِّيين الفرنسيين تحت التعذيب سنة 1957م.
ووصف في 2021م الحملة الدموية التي شنَّتها الشرطة الفرنسية على المتظاهرين الجزائريين في 17 أكتوبر 1961م بباريس، بأنها “جريمةٌ لا تُغتفر بالنسبة للجمهورية”.
إلاَّ أنَّ ذلك لم يكن سابقةً، فقد كانت هناك بوادرٌ قبله فتَحَت عملية الاعتراف المحتشم بذلك التاريخ، فقد اعترف “جاك شيراك” سنة 1998م – عبر سفيره بالجزائر – بمجازر 08 ماي 1945م، وندَّد “نيكولا ساركوزي” في نهاية 2007م بالنظام الاستعماري، واعترف “فرنسوا هولاند” سنة 2012م بـالمعاناة التي ألحقتها قساوة النظام الاستعماري بالشَّعب الجزائري.
إلاَّ أنَّ حقيقة “ماكرون” الرئاسوية فضَحَت خطواته السَّابقة، ونسَفَت تلك المصالحة المزعومة مع التاريخ، وأزعجت تلك التهدئة المفبركة مع الذاكرة، ففي أكتوبر 2021م كشف عن الوجه القبيح لفرنسا الرَّسمية، عندما تساءل تساؤلاً إنكاريًّا عن “وجود أمةٍ جزائريةٍ قبل الاستعمار الفرنسي”، متَّهمًا الجزائر بأنها أنشأت بعد الاستقلال عام 1962م: “رِيعًا للذاكرة”، كرَّسه “النظام السِّياسي العسكري”، و”أنَّ الجزائريين كتبوا تاريخًا مبنيًّا على كره فرنسا”.
والأغرب من ذلك هو قدرته على تجاوز هذه السَّقطة التاريخية، وإعادة ترميم قصة “علاقة الحبِّ” مع النظام الجزائري، بطرح بدعة “التاريخ المشترك” بكلِّ صفاقة.
* فهل نهب خزينة الجزائر عشية احتلالها سنة 1830م، والمقدَّرة بـ: 7 أطنان و 312 كلغ من الذَّهب، و 108 أطنان و704 كلغ من الفضَّة، و180 مليون فرنك، أي حوالي 180 مليار دولار بقيمتها الحالية، والتي سُرِقت وهُرِّبت على ظهر 5 بواخر إلى فرنسا يُعتبر تاريخًا مشتركًا؟
* وهل احتفاظ فرنسا بـ: 18 ألف جمجمة من المقاومين الجزائريين والأفارقة في متحف الإنسان بباريس منذ 1849م، كصورةٍ إرهابيةٍ ماديةٍ تفتخر بها فرنسا لإدانة نفسها يُعتبر تاريخًا مشتركًا؟
* وهل سرقة أرشيف وتاريخ وعلوم وثقافة الجزائر خلال مرحلة الاحتلال (1830م- 1962م)، وخلال العهد العثماني (1518م – 1830م) يُعتبر تاريخًا مشتركًا؟
* وهل عدد الشهداء الذين قدَّرهم المؤرخ الفرنسي (جاك جوركي) بـ: 10ملايين، الذين قُتلوا بكلِّ وحشيةٍ ودمويةٍ، والملايين من اليتامى والأرامل، والآلاف من القرى التي أُبِيدت، والمنازل التي هُدِّمت، والممتلكات التي صُودرت خلال كلِّ تلك الفترة يُعتبر تاريخًا مشتركًا؟
* وهل الاستيلاء على الأوقاف العقارية الكثيرة للجزائريين، وإصدار سلسلةٍ من المراسيم والقرارات لنزع صفة الحصانة عنها، والغدر بعدم احترام البند الخامس من معاهدة 5 جويلية 1830م الخاصَّة بتسليم مدينة الجزائر يُعتبر تاريخًا مشتركًا؟
* وهل الحرب على الإسلام واللغة العربية والتعليم القرآني والتاريخ الجزائري والخصوصية الثقافية عبر المقولة الفرنسية: “إنَّ العرب لا يطيعون فرنسا إلا إذا أصبحوا فرنسيين، ولن يصبحوا فرنسيين إلا إذا أصبحوا مسيحيين”، وتأسيس المدارس التبشيرية المسيحية، ووضع القوانين العنصرية، وتجنيس الجزائريين يُعتبر تاريخًا مشتركًا؟
* وهل التجنيد الفرنسي القسري لحوالي 175 ألف جزائري في الحرب العالمية الأولى (قُتل منهم: 26 ألف)، و 134 ألف جزائري في الحرب العالمية الثانية، ثمَّ الغدر بهم في مجازر 08 ماي 1945م يُعتبر تاريخًا مشتركًا؟
* وهل قتل 45 ألفًا من المتظاهرين المدنيين العُزَّل في 8 ماي 1945م يُعتبر تاريخًا مشتركًا؟
* وهل جريمة نهر السِّين في 17 أكتوبر 1961م بباريس، وقتل 1500 شهيد من المتظاهرين السِّلميين، و800 مفقود، وآلاف من المعتقلين يُعتبر تاريخًا مشتركًا؟
* وهل التجارب النووية الـ: 17 بالصحراء الجزائرية بين 1960م و 1966م، الواحدة منها أكبر 4 مرات من تفجيرات هيروشيما باليابان سنة 1945م، وبالمواد المشعَّة التي يدوم تأثيرها الخطير أكثر من 4 ملايير سنة من الزمن، والتي تسبَّبت بمقتل 42 ألف جزائري، ولا تزال آثارُها على الإنسان والبيئة إلى الآن يُعتبر تاريخًا مشتركًا؟
* وهل التهجير القسري لنحو 2166 مقاوم من الجزائريين إلى كاليدونيا، وجمع 3 ملايين جزائري في 2500 محتشد تحت الإكراه والتعذيب داخل الوطن، وترحيل 300 ألف جزائري إلى الدول المجاورة، وهدم 8 آلاف قرية بكاملها بين سنوات 1954م و1960م لانتزاع أراضيهم وعزلهم عن الثورة يُعتبر تاريخًا مشتركًا؟
* وهل عمليات اغتصاب نحو 4 آلاف من النساء الجزائريات بين سنوات 1954م و1962م التي تمَّ توثيقها فقط، وما تعرَّضن له من العذاب النفسي والجسدي مدى الحياة يُعتبر تاريخًا مشتركًا؟
* وهل زرع نحو 5 ملايين من الألغام خلال الثورة التحريرية فقط، والتي ذهب – ولا يزال يذهب – ضحيتها الآلاف من الجزائريين إلى الآن يُعتبر تاريخًا مشتركًا؟
وإنْ تعدُّوا جرائم فرنسا في الجزائر لا تحصوها، إذْ لا تمرُّ ساعةً من الوجود الفرنسي طيلة: 132 سنة، إلاَّ والتاريخ الفرنسي الأسود يسجِّل في كلِّ دقيقةٍ تلك الجرائم الفضيعة والمتعدِّدة.
إنَّ بدعة “التاريخ المشترك” تفضح المعايير المزدوجة والكيل بمكيالين لماكرون، وتعرِّي هذا النفاق الفرنسي في التعامل الانتقائي مع الحقوق التاريخية للجزائر، فهو يريد منَّا أن نطوي صفحة الماضي، لأننا لسنا طرفًا فيها، وأنها مجردُ أخطاءٍ في هذا الماضي لا يتحمَّل مسؤوليتها الجيلُ الحالي، بينما يشير بإعجابٍ إلى الرئيس الفرنسي الراحل “جاك شيراك”، الذي اعترف رسميًا سنة 1995م بمسؤولية الدولة الفرنسية عن ترحيل عشرات الآلاف من يهود فرنسا نحو معتقلات الإبادة على يد النازية خلال الحرب العالمية الثانية، بل إنَّ القضاء الفرنسي انتفض – متصهينًا – بالمتابعة القضائية لـ: “موريس بابون”، ليس على جرائمه التي ارتكبها في حقِّ المدنيين الجزائريين بباريس في مظاهرات 17 أكتوبر 1961م، ولكن بسبب ما نُسب إليه من جرائم في حقِّ اليهود في عهد حكومة “فيشي” الفرنسية الموالية لألمانيا سنة 1942م؟
لماذا لا تُطوى صفحة الماضي عندما تجرَّأ البرلمان الفرنسي يوم 23 فيفري 2005م على سنِّ قانونٍ يمجِّد الاستعمار الفرنسي في الجزائر وفي شمال إفريقيا؟
لماذا لا تُطوى صفحة الماضي وقد صوَّت البرلمان الفرنسي سنة 2010م بالأغلبية السَّاحقة على قانون تجريم إنكار جرائم إبادة الأرمن على يد الأتراك خلال الحرب العالمية الأولى، والإلحاح على تركيا بالاعتراف بتلك الجرائم؟
بدعة “التاريخ المشترك” لا تصمد أمام حقائق التاريخ الصَّارخة، وهي سياسةٌ ماكرةٌ من “ماكرون” لا يمكنها الجمع بين المتناقضات، بين الجهاد الجزائري المقدَّس وبين الاحتلال الهمجي الفرنسي المدنَّس.
وعلى السُّلطة الجزائرية أن تنتبه إلى خطورة هذا المسلك الماكر من “ماكرون”، لانطوائه على مغالطاتٍ تاريخية تمسُّ بالإرث المشترك بين الجزائريين، ويميُّع الحقوق التاريخية للشَّعب الجزائري، ويحيل القضية برمتها إلى عملٍ تقتنيٍّ تتقاذفه اللِّجان المؤدلجة الميِّتة، التي يهيمن فيها السِّياسي على المؤرِّخ، وتضيع معها الحقيقة والحقوق.
الشروق
ناصر حمدادوش
2022/09/07