يقول الحقّ سبحانه: {يا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ}، خلق الله الإنسان وجعله في هذه الدّنيا محلّ ابتلاء واختبار، يكدح فيها كدحًا حتّى يُلاقِيَ ربّه، يُسر بها حينًا، ويُساء بها كثيرًا، تنفرج أمامه أبواب السّعادة حتّى لا تستطيع أرض أن تقلّه ولا سماء أن تظلّه، فهو فرح مسرور في غبطة وحبور، حتّى إذا ما تقلّبَت عليه أمور وتنادت حوله حوادث الدّهور، ضاقت عليه الأرض بما رَحُبَت، وانغلقت عليه أبواب قد انفرجت، ابتلاء من الله وتمحيصًا.
إنّه درس عملي من الله تعالى يعلم به عباده أنّ الدّنيا هكذا خلقت، فرح وسرور، وأحزان وشرور: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ}، فكيف يطمئن عاقل إلى هذه الدّنيا؟!
جُبِلت على كدر وأنت تريدها صفوا من الأقذاء والأكدار
ولكن من رحمة الله بعباده ولطفه بأوليائه أنّه لم يَكِلْهُم إلى أنفسهم، ولم يجعلهم في هذه الحياة بلا هاد يعينهم، فجعل لانشراح الصّدر رغم المنغصات أسبابًا، ولانبساط النّفس وطيب الحياة أبوابًا: {أَفَمَن شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مّن رَّبّهِ}. وانشراح الصّدر وطمأنينة القلب من أعظم المنن وأحسن المنح، وأكبر النّعم، لذا امتنّ بها الله تعالى على نبيّنا محمّد فقال: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ}.
ومن أعظم أسباب شرح الصّدر إفراد الباري سبحانه بالتّوحيد، وعلى حسب كماله وقوّته وزيادته يكون انشراح صدر صاحبه: “فمَن يُرِد الله أن يهديَه يشرح صدره للإسلام، ومَن يُرِد أن يُضِلَّهُ يجعل صدره ضيّقًا حرجًا كأنّما يصعد في السّماء”، فالهدى والتّوحيد من أعظم أسباب شرح الصّدر، والشّرك والضّلال من أعظم أسباب ضيق الصّدر وانحراجه، فنور الإيمان يشرح الصّدر ويوسعه ويفرح القلب، فإذا فقد هذا النّور من قلب العبد ضاق، يقول عليه الصّلاة والسّلام: “إذا دخل النّور القلب انفسح وانشرح”، قالوا: وما علامة ذلك يا رسول الله؟ قال: “الإنابة إلى دار الخلود، والتّجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله”.
ومن الأسباب الإيمان بالقدر، بأنّه لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا رادَّ لما قضى، ولا معقّب لحكمه: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ، وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ}، فتوحيد الله ومعرفته، وتفويض الأمر إليه هو جنّة الدّنيا والنّعيم، وهو قُرَّةُ عين المحبّين، ولذّة حياة المؤمنين.
ومن أسباب انشراح الصّدر ترك المعاصي والهروب إلى الله ومحاسبة النّفس، فالهموم والأحزان عقوبات عاجلة، ونار دنيوية حاضرة، فكيف يطلب انشراح الصّدر من ضيَّع صلاته أو منع زكاته؟! وكيف يطلب انشراح الصّدر مَن ظلم مسلمًا في مال أو عرض؟! وكيف يطلب انشراح الصّدر مَن أكل الرّبا وغشّ المسلمين في بيع أو شراء؟! كيف يطلب انشراح الصّدر مَن عقّ والديه وقطع أقرب النّاس إليه؟! بل كيف يطلب انشراح الصّدر مَن ترك الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر؟! ألَا ما أبعد طيب العيش عن هؤلاء وأمثالهم، وما أضيق صدور هؤلاء، وتعسًا لحالهم.
ومن أسباب انشراح الصّدر التّزوُّد من الطّاعات والإقبال على ربّ الأرض والسّموات، فالطّاعة فرضها ونفلها زاد في الآخرة ولذّة في الدّنيا: “وما يزال عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنّوافل حتّى أحبَّه، فإذا أحببته كنت سمعه الّذي يسمع به، وبصره الّذي يبصر به، ويده الّتي يَبْطِش بها، ولئن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه”. ومن أعظم الطّاعات ذكر الله، ومن أعظم الذّكر قراءة القرآن تدبُّرًا وتأمُّلًا: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}.
ومن الأسباب تقوى الله، يقول ابن الجوزي في صيده: ضاق بي أمر أوجب غمًّا لازمًا دائمًا، وأخذتُ أبالغ في الفكر في الخلاص من هذه الهموم بكلّ حيلة وبكلّ وجه، فما رأيتُ طريقًا للخلاص، فعرضت لي هذه الآية: {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} فعلمتُ أنّ التّقوى سبب للمخرج من كلّ غمّ، فما كان إلّا أن هممتُ بتحقيق التّقوى فوجدتُ المخرج...
ومن أسباب انشراح الصّدر نفع المؤمنين وإعانة المحتاجين بالمال والبدن والجاه: “مَن نفّس عن مؤمن كُربَة من كُرَب الدّنيا نفَّس الله عنه كُربَة من كُرَب يوم القيامة، ومَن يَسّر على مُعسِر يسَّر الله عليه في الدّنيا والآخرة”، فما أحسن أن تدخل السّرور على يتيم أو أرملة، أو تطعم جائعًا أو تتصدّق على فقير أو تساعد ذا الحاجة. والله وليّ التّوفيق.
* إمام مسجد عمر بن الخطّاب، بن غازي - براقي
تقييم:
0
0
مشاركة:
التعليق على الموضوع
لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...
...........................................
=== إضافة تعليق جديد ===
في موقع خبار بلادي نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين خدماتنا. وبالضغط على OK، فإنك توافق على ذلك، ولمزيد من المعلومات، يُرجى الاطلاع على سياسة الخصوصية.