بين الراحة والجد… لا إفراط ولا تفريط
الحياة جد لا لهو كما أن الوجود حق وليس باطلا ,والدراسات تؤكد أن العمل والترويح عن النفس كلاهما ضروري للإنسان ولا معنى لأحدهما دون الآخر إذ لا قدرة لأحد على العمل من دون أن يستريح ولا معنى للراحة من دون التعب.
والتوازن النفسي يتطلب النشاط مع شيء من الترويح عن النفس وبهما معا يكون الإنسان متوازنا نفسيا.
والاستراحة بعد العمل شحن للنفس بطاقة إضافية بها يواصل النشاط ومن دونها يكون الدمار أو الانهيار ومن لا يتقن فن الراحة فلن يتقن فن العمل.
والإنسان ليس آلة ميكانيكية تعمل دون تتوقف وهي تحتاج إلى صيانة دورية كي لا تتبدد ، بل هو مخلوق عظيم فيه كل شيء جميل وبديع ، ومع احتياجه للعمل في عبادة الله وكسب رزقه هو محتاج لأوقات استراحة واستجمام تجعله يعود إلى عمله بنشاط جديد وهمة جديدة .
والترويح حاجة إنسانية وهو وسيلة وليس غاية والجد هو أصل والترويح فرع وهو حق من حقوق النفس أبيح بقدر الحاجة لكي يكون مقدمة للعمل والنشاط واستمرارا للجد والاجتهاد.
والنشاط في الحياة بمنزلة الغذاء أما الترويح فهو بمنزلة الدواء أو بمنزلة الملح لإصلاح الطعام، والعمل الدائم بلا ترويح، أو الترويح الدائم بلا عمل كلاهما يؤدي الى توقف النشاط.
ولا يوجد إنسان يستطيع أن يحافظ على رباطة جأشه أو أن يحتفظ بالطاقة للعمل الدائم طول حياته أو أن يحافظ بالروية والتعقل في كل تصرفاته ما لم ينل قسطا من الراحة أو يأخذ حظا من وقت لمراجعة نفسه.
والعرب تقول: اِسْتَجَمَّ المسافر أي استراح من تعب السّفر أو العمل واستجمّ البئر أي ترك ليتجمَّع ماؤها وتعود إلى سابق حالها.
والترويح مفيد في التخلص من التوتر والإجهاد النفسي والحصول على الاسترخاء والراحة النفسية وقمة الهدوء.
ذكر أبو حامد الغزالي في الإحياء عن أبي الدّرداء رضي الله عنه: إنِّي لَأَسْتَجِمُّ نفسي بشيء من اللّهو ليكون عونا لي على الحقّ.
ومن جميل نصائح رسول الله لعبد الله بن عمرو-وكان صواما قواما-: «يا عبد الله بن عمرو: إنك لتصوم الدهر وتقوم الليل، وإنك إذا فعلت ذلك هجمت له العين ونهكت، لا صام من صام الأبد».
ومعنى (هجمت له العين) أي غارت ودخلت في موضعها ,ومعنى (نهكت) العين أي هزلت وضعفت لكثرة سهرها.
والترويح مباح تحوله النية الصالحة إلى طاعة ولكنه ترويح ولهو لا يقع صاحبه في محرم ولا يقصر في واجب ولا يتسبب في أذى لبشر أو حيوان أو طبيعة ولا يكون فيه تبذير للمال أو استهلاك باذخ.
وهو ترويح يخطط له ويختار له المكان المناسب والزمان المناسب فيه يتفرّغ لأهله وولده وينقطع لهم ويتمتع بجمال الطبيعة ومحاسن الخلق دون الوقوع في المآثم والسيئات.
يمارس رياضة أو يتمتع بالمشي في أحضان الطبيعة أو يزور آثارا أو يتأمل في مخلوقات الله وتنوعها أو ينمي هواية أو يطور شخصية..
وكثير من الناس يقع في موضوع الترويح بين الإفراط أو التفريط ,فمنهم من يغلو فيه ويجعل همه هو الترويح عن نفسه والترفيه عنها، ومنهم من يفرط فيه ويرى أنه لا فائدة منه ولا داعي له، بل هو مضيعة للوقت ومفسدة للعمر.