فضاءات جنين بورزق

جنين بورزق

فضاء الثقافة والمواضيع العامة

العضو الأكثر فعالية على مستوى الـبلدية
حجيرة ابراهيم ابن الشهيد
مسجــل منــــذ: 2010-10-19
مجموع النقط: 3353.44
إعلانات


“الإنسانُ العَبْقَريُّ”:{هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ}

الثلاثاء _21 _يونيو _2022

أ: البدر فارس/ البصائر

ميزة وأهمية العقل
من عادة الناس عند شعورهم بالإرهاق الشديد، يودون الاسترخاء على شاطئ البحر وشم نسيمات البحر العليلة المُريحة للتخفيف وللترويح عن أنفسهم، ثم بدون شعور يرمون ببصيرتهم إلى أمواج البحر المُتدفقة من كل الجهات، فتكون عيونهم مُنصَبَّة على تلك الصفحة الزرقاء المُنبسطة أمامهم إلى الأفق، ويطلقون العنان لأفكارهم لِتُعانق الموج المُتكسر عند إقدامه أو لتسبح مع الموجات البعيدة، فسرعان ما يستحوذ عليهم جمال المنظر وعظمة الخلقة… ثم لا تلبث أفكارهم أن تغوص إلى لجة اليم وراء الأسرار والعجائب التي يضمها البحر في طياته…!!.
ولا تكاد هذه “السباحة الفكرية” أن تنتهي حتى تكون جوانح النفس قد امتلأت عجبًا من براعة الصنعة وعظمة الخلقة، وفاضت تسبيحًا بجلال الخالق وإبداع المُصور:{هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(سورة الحشر، الآية: 24)، {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}
(سورة الأنعام، الآية: 101)، {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} (سورة الشورى، الآية: 33-32).
وإذا نحن سبحنا فكريًا في تركيب الإنسان، فسوف نُصادف من العجائب ما لا يقل شأنًا ولا ينقص جمالًا عن فرائد البحر ودرر اليم. وحسبنا أن نغوص في عقل الإنسان لِنُلاحظ نشاطه المُكثف الفريد، وأعماله الحيوية المُتميزة، وديناميكيته المُستمرة الكاملة، ونظامه الرائع المُحكم، وإبداعه الكبير في التمييز لنرى من دلائل الإعجاز وآيات الإبداع ما يأخذ بمعاقد اللب ومجامع النفس…!!.
العقل -كما يُعرِّفه العُقلاء- هو نورٌ روحانيّ بهِ تُدرك النفس ما لا تدْركه بالحواسِّ؛ وقد سُمِّي العَقل عَقْلًا لأنَّه يعقِل صاحبَه عن التورُّط في المهالك أي يحبسه.
والعقل هو المسؤول عن التفكير عند الإنسان، وهذا التفكير الإرادي ينتج عن طريق الدماغ البشري، فالدماغ البشري هو المسؤول الفعلي والمُباشر عن الأفعال الإرادية المُعقدة مثل التفكير والاستنتاج والإستقراء، فالعقل والدماغ البشري هما متلازمان لعملية التفكير. والدماغ البشري هو كذلك المسؤول الفعلي والمُباشر عن الأفعال اللإرادية مثل التنفس والهضم وضربات القلب…
وظائف خلايا الدماغ البشري… وإبداع الخالق والدماغ البشري هو كُتلة مُعقدة التركيب من الدهون والبروتينات يبلغ وزنها حوالي 4.1 كيلوغرام، تستهلك في حالة الاستيقاظ طاقة تكفي لإضاءة مصباح كهربائي صغير.
والدماغ البشري يتكون من حوالي مائة مليار خلية عصبية، ونشاط هذه الخلايا والأعمال الحيوية التي تقوم بها، هو في الحقيقة الأساس لنشاط وعمل الدماغ البشري، وعلى الرغم من اختلاف مكونات ووظيفة الخلايا من عضو أو جهاز في الجسم إلى آخر، فإنَّ التركيب الأساسي واحد لجميع الخلايا…!!.
ولسنا هنا بصدد تعريف القارئ الكريم بمكونات ووظائف خلايا الدماغ البشري فحسب، بل لِنُعطيه فكرة وجيزة عن مصدر التفكير عند الإنسان، أي لِنعرف مَنبع ومَصدر هذا التفكير الذي يُؤهل لقليل من الناس إلى الوصول إلى درجة: “الإنسان العبقري”.
ويمكن تعريف الخلية العصبية الحية للدماغ البشري من الناحية التركيبية بأنها وحدة نشطة مُنظمة من البروتوبلازم. وينقسم البروتوبلازم إلى جُزأين مُتكاملين، يعتمد كل منهما على الآخر، هما “النواة” أو الجزء المركزي، و”السائل الخلوي” أو الجزء المُحيط. ويُحيط بهذين الجُزأين -أو الخلية- “غشاء الخلية”.
وعند ملاحظتنا للخلية الحية بالمجهر، نرى أنَّ قُطرها يتراوح بين واحد إلى مائة مايكرومتر، ولتقريب ذلك إلى الأذهان، فإنَّ المليمتر الواحد الذي نراه على المسطرة يُساوي مجموع أقطار مائة إلى ألف خلية…!!.
وهذا يُبيَّن لنا الإعجاز في الخلقة والإبداع في الصنعة، ففي هذا الحيز الضئيل والمُتناهي في الصِّغر تحتشد تلك التراكيب العجيبة النابضة بالحياة!، وكل جُزئية أو تركيب يعمل في دأب لا يعرف الفتور، ونشاط لا يتسرب إليه الكلل ولا الملل!، ويأتلف عمل المجموع في تناسق بديع، فلا اضطراب ولا نُشوز…!!.
ثم يُزيدنا العلم عجبًا عندما يخبرنا بالتكامل العجيب في تركيب الخلية، ففيها مصانع الغذاء ومراكز الطاقة وشبكة المواصلات، بل ومركز للتجميع والتعبئة والتخزين!، وحتى بوابات الخلية تُثير العجب: فلا شيء يدخل إلى الخلية، ولا شيء يخرج منها إلا وِفق نظام مُحكم…!!.
ويزيدنا العلم عجبًا عندما يوضح لنا كيف تتمكن تلك المصانع العجيبة في الخلية الحية، من إنتاج عشرات المواد ذات التركيب الكيميائي المُعقد، مع أنَّ مساحة المصنع الواحد أصغر من مساحة النُقطة المُستعملة في الكتابة بحوالي مليون مرة…!!.
ويزيدنا العلم أيضًا تعجبًا واندهاشًا، عندما يُبرهن لنا أنَّ تلك المصانع العجيبة في الخلية التي لا تراها العين المُجردة، هي الأصل الذي منه تَكَوَّنَ الإنسان!، فكل إنسان ينبثق من خلية واحدة هي البويصة المُخصبة. فهل دارَ في خُلد الإنسان يومًا أنَّه في أول تكوينه كان شيئًا غير منظور؟! ذلك هو إبداع الخالق المُصوَّر المُبدع.
ومن الناس من يقول إنَّ الصُدفة هي التي خلقت الإنسان وأنَّ العشوائية أوجدته!، فهل يُعقل أن تكون هذه الصنعة البديعة مُجرد صُدفة؟! وهل يُعقل أن يكون هذا التكوين المُحكم مُجرد خبط عشواء؟! وإذا كان الأمر كذلك، فهل يكون مقبولًا في الأفهام أن تتكرر الصُدفة نفسها ملايين ملايين المرات من غير زيوغ أو حيود أو نشوز؟! ليست هذه الصنعة البديعة صُدفة ولا خبط عشواء، بل إنها خلقٌ مُحكم مُعجز:{صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ}
(سورة النمل، الآية: 88)، والنسق واحد لا يتغير:{مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ} (سورة الملك، الآية: 3). ومما يدل على أنَّ الخالق واحد، هو أننا لا نرى في الكون دليلًا واحدًا على تعدد النسق واختلاف أصول الخلق، فذلك يدل دلالة يقين على أنَّ الخالق واحد لا شريك له. ولو تعدد الخالق لتعدد النسق ولاختلفت أصول الخلق:{إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}(سورة المؤمنون، الآية: 19).

العقل مصدر عبقرية الإنسان
فلنُلخص ما ذكرناه ونقول: بأنَّ العقل والدماغ البشري هما المسؤولان عن التفكير عند الإنسان، وأنَّ الله سبحانه وتعالى قد ميَّزَ الإنسان عن جميع المخلوقات بأن أعطاه هذا العقل.
فالعقل هو أكبر نعمة أُعطيت للإنسان، ولا نعدو الحقيقة إذا قُلنا: إنَّ العقل نعمة الله تعالى التي أهداها إلى الإنسان، ليكون خليفة في الأرض، يبني العمران، ويُقيم صرح الحضارة وفق شرع الله تعالى، في علاقة لا تنفصم عراها بين الروح والمادة. وهذا الصرح الحضاري الإسلامي الذي تركه لنا أجدادنا الأماجد كان وليدة الإبداع العقلي، ضف إلى ذلك إذا عرفنا أنَّ التقدم هو حاصل نتيجة صناعة التفكير، فإننا نستنتج أنَّ تقدم الحضارة وازدهارها متوقفٌ ومرهونٌ على ما يُتاح لعقول أبنائها من مساحات الحرية وفضاءات التفكير.
والله سبحانه وتعالى عندما وهبَ للإنسان العقل وميزه به عن سائر المخلوقات، نبهه على ضرورة توظيفه لإدراك عظمة الخالق عزَّ وجلَّ وقُدرته، من خلال التفكر في آيات الأنفس والآفاق، يقول الله تعالى:{وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار}(سورة آل عمران، الآية: 191)، فالعقل الواعي هو العقل الذي لا ينسى وجود خالقه، ولا يغيب عن وعيه آثار رحمة ربه، ويراه قائمًا على كل شيء، ويشهده موجودًا في كل حقيقة.
وإذا درسنا القرآن الكريم بتمعن، فإننا نجد فيه من الآيات المُتعددة ما تدعو إلى التفكير والترحيب به، فهو الذي دعا إلى النَّظر والتَّفكير فيما خلق الله من كل شيء، في السموات والأرض، وفي الإنسان نفسه، وفي الجماعات البشرية. ومن الآيات الدَّاعيَّة إلى النظر والتفكير في رِحاب الكوْن الفسيحة، قول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}(سورة البقرة، الآية: 164)، وهكذا يمضي القرآن في مِئات الآيات، يدعو إلى النَّظر والتفكير في مجالات الكوْن الفسيحة، ليهتدي الإنسان إلى مُبدع العالم وخالقه، وليعرف حقائق الأشياء وخصائصها، كي يتسنَّى له الانتفاع بما أدَّعَ فيها من قُوى.
وتبدو عناية القرآن في الدَّعوة إلى النَّظر والتفكير في الإنسان ومُجتمعه، ليكشف عن صفاته ومُميزاته كفرد، وعن السُّنن والقوانين التي تحكم مجتمعه، والتي لا يمكن معرفتها إلَّا بالتفكير السديد، والبحث الدَّقيق، والنَّظر العميق، والمُلاحظة الواعية.
وهذا كله دليلٌ قاطع على أنَّ عقل المؤمن صاحب التفكير السليم هو من أهم العوامل والأسباب، التي تجعل من حياة الإنسان -صاحب هذا العقل الراجح- حياة هادفة، له سعي نبيل يسعى إليه، يصبح هذا العقل -مع الإرادة- صاروخًا مُندفعًا إلى هدفه لا يوقفه جدار، ولا بُعد المسافات ولا زمان ولا مكان، صاروخ مُندفع إلى هدفه لا يعوقه شيء، وهؤلاء هم السعداء، وهم العظماء في هذه الدنيا والمُقربون في الحياة الأخرى.
لهذا كُلّه نقول بأنَّ العقل هو خلقٌ مُحكم مُعجز:{صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ}(سورة النمل، الآية: 88).
والحقيقة التي لا مراء فيها أنَّ الجمال في الخلقة واضح جلي، والإبداع في الصنعة بيّن غير خفي، وليس وراء هذا الإعجاز مطلب لطالب، ولا بعد الحق مذهب لراغب:{هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}(سورة لقمان، الآية: 11). وفيما وصفنا من بديع صنع الله آيات وعبر: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}
(سورة ق، الآية: 37).
والإنسان المؤمن صاحب العقل السليم، الراجح التفكير هو من أرقى البشر، فبإيمانه الصحيح وعقله السليم وتفكيره الراجح يستطيع الإبداع، يستطيع أن يجعل من الشيء البسيط شيئًا عظيمًا، مُتميِّزًا على الأشياء الأخرى، يستطيع إيجادَ حُلولٍ لأصعب المسائل الشائكة، وهذا الصنف من البشر الذي يصل إلى هذه الدرجة من التفوق العقلي والفكري، نُسميه بـ”الإنسان العبقري”.
إذن… “العبقري” هو السيِّد الذي ليس فوقه شيء، فهو كلّ ما يُتَعَجَّب من كماله وقُوَّته وحذقه.
وإنَّه مهما طالت أعمار الناس وأعمالهم إلا أنها تبقى قصيرة، ويبقى فعلها فقط هو المُحدد لطول زمن بقاء أثرها، سواء في ذاكرة الناس أو التاريخ، الذي سينقل بدوره الأثر إلى ذاكرة أجيال مُقبلة. ولأصحاب الريادة والعبقرية من البشر مكانة خاصة في ذاكرة الزمن، ويحفظ فعلهم ليبقى كنقاط ضوء تُنير الدرب للاحقين.
بذات هذا الإلهام سيبقى أثر عُلمائنا العباقرة الأماجد العظماء؛ عُلماء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين؛ كأمثال: بن باديس، والإبراهيمي، والعربي التبسي، ومبارك الميلي، والعقبي… وغيرهم الخالدين إلى يوم الدين، وصدق أُستاذنا وشيخنا الجليل العلَّامة “محمد البشير الإبراهيمي” عندما قال: “يموتُ العُظماءُ فلا يَندثر مِنهم إلَّا العُنصر التُّرابي الذي يَرجع إلى أَصلهِ، وتَبقى مَعانيهم الحيَّة في الأرض، قُوَّةً تُحرِّك، ورابطةً تَجمع، ونُورًا يَهدي، وعِطرًا يُنعِش، وهذا هو مَعنى كَوْن العَظمة خُلودًا، فإنَّ كُلَّ ما يُخلِّف العُظماء من تُراثٍ هو أعمالٌ يَحتذي بها مَن بَعدهم، وأفكارٌ يَهدون بها في الحياة، وأمجادٌ يَعتزُّونَ بها ويَفخرونَ بها؛ والاعتزازُ والفخرُ مِنَ الأغذية الرُّوحيَّة الحافظة لِبقاءِ الجَماعاتِ”.


تقييم:

0

0
مشاركة:


التعليق على الموضوع


لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...

...........................................

=== إضافة تعليق جديد ===
الإسم:

نص التعليق:

انقل محتوى صويرة التحقق في الخانة أسفله:
الصورة غير ظاهرة