جزائريون يتحدّون المضاربين ويحافظون على مظاهر التكافل “مطاعم الرّحمة”.. إرادة الخير تنت
الجزائر
وهيبة سليماني
2022/04/11
الشروق
فقراء، متشردون، مرضى، عمال، عابرو سبيل، موظفون، وإطارات سامية، وتجّار، طلبة، وأفارقة، يجلسون جميعا إلى موائد الإفطار الرمضانية في لوحة فسيفسائية رائعة، محاطة بأجواء التراحم والتكافل.. اختلفت مناطقهم وأعمارهم لكنهم يبسملون جميعا في آن واحد بعد سماع أذان المغرب، ويبدؤون إفطارهم الجماعي في رحاب رمضان المبارك، وهم بين متعة المكان ولذة الأكل!
هكذا هي بعض مطاعم الرحمة خلال رمضان 2022، لم تعد تلك الفضاءاتّ” التي يدخلها فقط، الفقراء والمتشردون في استحياء وهم يلتفتون يمينا وشمالا، مغلوبون على أمرهم، راضون بوجبات مهما كانت نوعيتها وذوقها، بالنسبة إليهم، “اللقمة” التي تسكت بطونهم الجائعة.
ومطاعم الرحمة عكست خلال رمضان الجاري، الوضع الاجتماعي في ظل ارتفاع الأسعار وتدني المستوى المعيشي، واختفاء الطبقة الوسطى من الجزائريين، فقد شهدت بعضها إقبالا غير مسبوق، سواء للجلوس إلى موائدها للإفطار، أم للحصول على وجبات محمولة.
ودخول مطاعم الرحمة، لم يعد مقتصرا على أشخاص يظهر عليهم البؤس والفقر، والملابس الرثة، فأصحاب الحقائب، والطلبة، والتّجار، والأطباء، هم أيضا يدخلونها، فرغم تراجع التبرعات هذه السنة، إلا أنّ هذه المطاعم ارتقت بنوعية أكلها ونظافته، وأسلوب تعاملها مع الوافدين إليها، وطرق تقديم الأطباق، وحتى لباقة دعوة المارين للإفطار فيها، فنافست بذلك، مطاعم خاصة رفعت سعر مأكولاتها وأطباقها في شهر الرحمة.
طوابير على الوجبات المحمولة قبل الأذان..
ومن خلال جولة ميدانية استطلاعية، قادت “الشروق”، إلى أكبر مطعم رحمة في بلدية حسين داي بالعاصمة، يقع غير بعيد عن المستشفى الجامعي نفيسة حمود “بارني” سابقا، ساهمت في تمويله وتسييره 4 جمعيات خيرية، تبين من خلال تواجدنا قبل الأذان ببضع الدقائق، حجم الإقبال على الوجبات المحمولة.
واصطف الشباب والكهول، في طابور طويل، أمام أحد مداخل المطعم، للحصول على حساء “الشوربة”، و”البوراك”، وطبق ” طاجين الزيتون”، والخبز، وبعض التمور، فالظروف المحيطة بهؤلاء، حتمت عليهم اللجوء إلى مطاعم الرحمة وهم يحملون أوان وعلب بلاستيكية لتعبئتها بالأكل.
وتوزع الوجبات المحمولة، على أشخاص جاؤوا من أحياء مجاورة، ومن بلديات كالحراش، والقبة، وهم فقراء، وكبار السن الذين لا يجدون من يطبخ لهم، أو كهولا يعيشون بمفردهم، حيث استطاع مطعم الرحمة “ماريا” بالمقرية بحسين داي، أن يوفر يوميا ما يقارب 200 وجبة محمولة، وهذا ما أكده لنا فريد اورابح، عضو جمعية كافل اليتيم، إحدى الجمعيات المشاركة فتح هذا المطعم.
وفي هذا السياق، قال شاب كان ينتظر دوره للحصول على نصيبه من الوجبات المحمولة، إنه يعيش مع والده بمفردهم بعد أن توفيت أمه، ووجد في هذا المطعم الحل للحصول على ما يحتاجه لمائدة الإفطار خلال رمضان.
أما محمد، وهو كهل في الـ58سنة، فقال لـ”الشروق”، إن المطعم يتوفر على أطباق لذيذة، ويتميز بالنظافة، ولا يشعر تماما بأن الأكل الذي يتحصل عليه، مصدره مطعم الرحمة، وأضاف موضحا: “إني أعيش بمفردي، ولدي جارة عجوز أرملة، آتي إلى هناك لأحصل على وجبات لي ولها.. إنها تسعد بما أخذه لها”.
وحول ذات السياق، أكّد عضو جمعية كافل اليتيم، فريد اورابح، أنّ الوجبات المحمولة، كشفت عن حجم التدهور في القدرة الشرائية، وهذا بالنظر إلى الأشخاص الذين يأتون لأخذ الوجبات المحمولة.
وأفاد المتحدث بأن الأرامل والأشخاص الذين يعيشون بمفردهم، وخاصة كبار السن، يقصدون المطعم للحصول على وجبات محمولة، خاصة بعد أن تأكدوا أنها من نوعية جيدة، ومتنوعة، ووفروا بذلك على أنفسهم عناء الطبخ وشراء المواد الغذائية.
500 وجبة يوميا.. وعدد المفطرين في تزايد
وقبل الأذان بدقائق قليلة جدا، امتلأ مطعم الرحمة لتنسيقية مقاطعة حسين داي، المتكونة من 4 جمعيات وهي جمعية العلماء المسلمين، وكافل اليتيم، وجمعية البركة، ولجنة حي بن بولعيد، والمدعمة أيضا من إمام مسجد البحر والشمس، على آخره، وأصبح فسيفساء بشرية، في قاعة كبيرة جدا، أضيفت إليها قاعة أخرى، وجناح للنساء.
وكانت موائد المطعم مجهزة، بالصحون، والماء والتمر، واللبن، حيث كان على كل طاولة قدر حساء “الشوربة” المعروف بـ”لاسوبيار”، وأطباق “طاجين الزيتون”، وسلال الخبز، والمتطوعون لا يتوقفون عن خدمة المفطرين، إلى درجة نسوا أنهم معنيون هم أيضا بالإفطار.
وفي مطعم الرحمة، الكل يجلسون إلى موائد واحدة، الكبير والصغير، المتشرد وعابر السبيل، والأفارقة، والطلبة والعاملون في شركات مجاورة للمطعم، والمرضى الذين جاؤوا من بعيد إلى المستشفى للعلاج ولم يسعفهم الوقت للعودة إلى بيوتهم، حيث وباء كورونا لم يعد موجودا، ولا إجراءات للوقاية منه، قد تنغص أجواء، التلاحم البشري في رمضان، وسط التكافل والعمل الخيري.
وأوضح لنا عبد اللطيف عكاك، أحد المتطوعين، أن المطعم يوفر ما يقارب 350 وجبة، إلى جانب توزيع 200 وجبة تقريبا للمنازل.
الرّجال والنساء.. المتشرّدون والأطباء جنبا إلى جنب!
“التفاتة جيدة من أصحاب الخير.. للمطعم نكهة خاصة، فالأجواء مميزة، تزيد الإيمان بأن الخير لا يزال في بلادي”، هكذا عبر إطار في شركة خاصة، جاء من ولاية تبسة إلى العاصمة، في إطار مهمة عمل، ووجد في مطعم الرحمة، المكان الذي يفطر فيه متمتعا بوجود شرائح مختلفة من المجتمع.
وأكثر ما أسعده، الطريقة التي وصفها بـ”اللبقة”، في دعوته من طرف أحد المتطوعين للإفطار في هذا المطعم، حيث قال إنّه كان بصدد البحث عن مطعم خاص، لكنه وجد في مطعم الرحمة ما لم يتوقعه.
ومن جانبه، قال مرافقه وهو أيضا إطار في شركة بتبسة، إن حسن الاستقبال رفع عنه حرج الدخول إلى مطعم الرحمة، لكنه لم يندم، خاصة أن المهمة التي جاءا لأجلها اضطرتهم للبقاء في العاصمة إلى يوم آخر.
والطلبة والعمال في الشركات المجاورة، وفي الثكنة، هم أيضا وجدوا في مطعم الرحمة ملاذهم، وفرصة تقاسم متعة الإفطار مع الآخرين، حيث قال الطالب بلال، في المعهد الوطني للتكوين شبه الطبي الواقع قرب مستشفى “بارني”، إن إعجابه بأطباق هذا المطعم جعله يفضله عن مطعم المعهد، موضحا أن مشاركة أصدقائه الطلبة في نفس المعهد وسط شرائح فقيرة من المجتمع، يشعره بنكهة رمضان.
ولم يقتصر الأمر على الطلبة الذكور، فقد تعودت طالبة من نفس المعهد على ارتياد هذا المطعم منذ بداية رمضان، حيث تجلس في جناح خاص بالنساء رفقة فقيرات ومتشردات يقصون عليها حياتهن البائسة ويتبادلون عبر الحياة.
وعبّر عبد المالك، مهندس معماري يعمل في شركة بحسين داي، عن الدور الذي لعبته مطاعم الرحمة في رمضان، خاصة أن المرحلة تصادفت مع عمل الكثير من الشركات، وبقاء عمال بعيدين عن عائلاتهم، حيث جاء من ولاية تسمسيلت للعمل بالعاصمة، بعيدا عن أجواء العائلة، هذه الأجواء التي التمسها، حسب ما أكده لنا، في مطاعم الرحمة.
وأما علي، وهو كهل في الـ59سنة، فإنه قصد مطعم الرحمة لأنه يعيش بمفرده بعد أن توفيت زوجته، ولم يجد من يطبخ له، قال: “ملل وحدتي وأنا أجلس إلى مائدة الإفطار، بدّدته هنا وسط هؤلاء الطيبين”.
وحول الشرائح التي ترتاد مطعم تنسيقية مقاطعة حسين داي، أكد المتطوع عبد اللطيف عكّاك، أن الأطباء يأتون إلى المطعم خاصة لان المستشفى الجامعي نفيسة حمود بالقرب منه، وقد كان خلال نهاية الأسبوع الماضي حضور عدد منهم.
والمرضى الذين ينتظرون دورهم في العلاج طيلة اليوم، هم أيضا يقعون في مشكل تأخر العودة إلى منازلهم، فيضطرون وهم منهكين إلى البحث عن فنادق للمبيت، وقد لا يكون بحوزتهم المال الذي يكفي لشراء أكل وهم في رمضان، فما يكون عليهم إلاّ دخول مطاعم الرحمة.
وقالت سيدة جاءت من ولاية سطيف رفقة زوجها، وابنها الرضيع المريض، لعلاجه في المستشفى، “إن الرحمة هاهنا.. عانيت وزوجي، انتظرنا طويلا دورنا لعلاج طفلنا، وقد وجدنا أنفسنا مضطرين للإفطار في هذا المطعم، قبل أن نذهب للفندق”.
وأكّدت أنها خرجت رفقة زوجها من بيتهما بسطيف على السادسة صباحا، وخرجت من المستشفى قبل الأذان بدقائق، فهي منهكة إلى درجة لا تطاق.
ومن جهتها، عبّرت سيدة من أولاد سلامة بالبليدة عن فرحتها بما وجدته في مطعم الرحمة، فقد دخلت متأخرة رفقة زوجها، وأطفالها الثلاثة، وبعد أن أنهى الكثير ممن كانوا في المطعم، إفطارهم، بدأت هي وزوجها، بالأكل، وهما منهكان، ويتغلب عليهما التعب أكثر من الجوع.
وقالت إن مرض ابنها الرضيع، وحالته الصّحية المتدهورة، جعلتهما يبدؤون شهر الصيام برحلة لعلاج ابنهما، وقد انتظرا في مستشفى بارني، طيلة النهار، ولم يسعفهما الحظ في العودة إلى المنزل.
المتطوّعون.. البلسم الذي ينسى البؤساء همومهم
ورغم القصص البائسة والمؤلمة وحالة المعاناة التي تعتلي وجوه الكثير من المفطرين في مطاعم الرحمة، إلاّ أنّ هناك بلسم الرحمة والتعاطف والمحبّة، هذه الصفات التي يحملها المتطوعون في خدمة هؤلاء بدون مقابل.. التاجر والمهندس والتقني السامي، والطالب الثانوي، كلهم تجندوا لخدمة الخير والتكافل.
ولمست “الشروق” في زيارتها إلى مطعم تنسيقية مقاطعة حسين داي، حب التطوع والتمتع به لدى الكثير ممن كانوا يهرولون إلى خدمة المفطرين، فيوزعون في نشاط وخفة عليهم كل ما يحتاجونه، ولم يتمتع هؤلاء إلا بشق تمرة وكأس صغير من اللبن، فإفطارهم كان بعد أن شبع غيرهم.
عبد اللطيف عكاك، تاجر، متطوع، قال إنه يشعر بنعمة ما بعدها نعمة، وهو يخدم الناس دون مقابل، يتحرك في كل الاتجاهات لتلبية طلبات رواد المطعم، ولا يفطر إلا بالتمر واللبن، ولا يقتصر دوره على ترتيب موائد الإفطار، فهو يتولى أيضا جمع التبرعات والبحث عن كل لوازم تحضير الأطباق.
وسيد علي بوخرشوفة، يعمل تقنيا في شركة خاصة، لكنّه لا يتأخر عن العمل التطوعي الذي أدمن عليه منذ 12سنة، ويبدد حسب ما أكده لـ”الشروق” طاقته السلبية في خدمة الفقراء والمساكين داخل مطاعم الرحمة.
وقال المتطوّع فوزي برواقي، إن العمل التطوعي متعة لا يمكن أن يستغني عليها الإنسان بعد أن تعود عليها، فقد بدأ تطوعه في مطاعم الرحمة منذ 3 سنوات، واستخلص خلالها عبر من الحياة، ولكنه لاحظ أن الحاجة إلى هذه المطاعم زادت خلال رمضان 2022.
ويعتبر فريد اورابح، وهو عضو في جمعية كافل اليتيم، أن العمل التطوعي يعلم الحكم، ويكشف عن هموم فئات تعاني في هذه الحياة حيث قال: “يأتي هنا متشردات يحملن قصصا كلها الم وحسرة، فقد تنسيك هموك”.
وعلق أسامة الذي بدأ العمل التطوعي منذ 10 سنوات، علما أنه إطار تجاري في شركة خاصة، قائلا: “اكتشفت هذه السنة أن الطبقة المتوسطة في الجزائر بدأت تختفي.. الإقبال كبير، لكن متعة التطوع تنسي مشقة العمل”.
“يعقوب. ب”، هو اليوم طالب في السنة الثانية ثانوي، يجد في ما يقوم به، علاجا نفسيا يخفّف عنه التوتر، حيث قال: “إنني أذهب إلى الدراسة وكلي حيوية، أشعر بأني تخلّصت بالعمل التطوعي من كل الطاقة السلبية”.
“طاجين الحلو” غائب.. واللحوم غير مضمونة!
وفي ما يتعلق بعملية جمع التبرعات وتحضير مائدة رمضانية متوازنة للمفطرين في هذا المطعم، أكد فريد اورابح أن بعض المحسنين تعهدوا بتقديم مواد غذائية معينة حتى نهاية رمضان، حيث منذ بداية الشهر يوفر المطعم اللبن والتمر واللحوم في الطبق الثاني و”الشوربة”، و”البوراك” والسلطة.
ولكن حسب ذات المتحدث يبقى التخوف قائم حول اللحوم البيضاء والحمراء، حيث أنّ الحصول عليها يكون بصعوبة، مشيرا إلى أنّ المتبرعين لم يتوقفوا عن الدعم.
وقال عضو جمعية كافل اليتيم، اورابح إن “طاجين الحلو” مشطوب من قائمة أطباق مطاعم الرحمة، ولم يتم الحديث عنه نهائيا، حيث لا يمكن إيجاد متبرع بمكوناته من الفواكه الجافة والمكسرات التي التهبت أسعارها، كما أنّها من الكماليات.
30 ألف عائلة استفادت من قفف الهلال الأحمر
بن حبيلس تحذر من التبذير في مطاعم الرحمة
حذرت رئيسة الهلال الأحمر الجزائري، سعيدة بن حبيلس، من مظاهر التبذير في مطاعم الرحمة، قائلة: “إنني أفضل أن تمنح الطرود الغذائية للفقراء والمساكين، وهذا ما انتهجه الهلال، على أن تبذر مواد غذائية تشهد ندرة في مطاعم الرحمة”.
وأكدت بن حبيلس في تصريح لـ”الشروق”، أنه منذ بداية رمضان، استفادت 30 ألف عائلة جزائرية من طرود غذائية، قام الهلال الأحمر الجزائري بتوزيعها على الفقراء والمساكين، والقاطنين في مناطق الظل.
وقالت سعيدة بن حبيلس إن مطاعم الرحمة التابعة للهلال الأحمر، وعددها 200 مطعم عبر القطر الوطني، تتباين فيما بينها من حيث الأطباق والوجبات التي توفرها خلال رمضان، وهذا حسبها، يرجع إلى حجم التبرعات وطبيعة المنطقة وعدد السكان.
وأوضحت أن بعض المطاعم قد لا توفر كل أنواع الأطباق واللحوم وبعض الفواكه، وذلك يرجع إلى حجم التبرعات في كل منطقة، قائلة: “الهلال الأحمر يتابع حاجة هذه المطاعم لبعض المواد الغذائية، لكنه يفضل توزيع الطرود والوجبات الساخنة في الطرقات”.