جبَّارُ الشهور /محمد الهادي الحسني
جبَّارُ الشهور
محمد الهادي الحسني
قضى الله -عز وجل- يوم خلق السموات والأرض أن عدة الشهور عنده اثنَا عشر شهرا، وحرَّم أربعة منها، ولكنه -عز وجل- لحكمةٍ لا يعلمها إلا هو لم يذكر بالاسم في كتابه المبين إلا شهرا واحدا، وهو هذا الشهر الكريم الذي أظلّتنا أيامُه المباركة، إنه شهر رمضان المعظّم، كما أكرمه بأمر أعظم وأجلّ هو أنه أنزل فيه كتابه الذي لم يأتِه، ولن يأتيه الباطل مهما تكثر جنودُه، وتتعدّد أحلافُه، وتتنوع أسلحتُه، ومهما يطل الزمان.
يُطلق على هذا الشهر الفضيل عدة أسماء، ويوصف بعدة أوصاف، ذُكرت في مصادر الإسلام تصريحا وتلميحا، وكما قيل فإن كثرة الأسماء تدل على شرف المسمَّى، وكثرة الأوصاف تدلُّ على شرف الموصوف، ومكانتِه السامية وقيمتِه الغالية.
مما سُمِّي ووُصف به هذا الشهرُ المبارك أنه شهر القرآن الكريم، وشهر الغفران، وشهر التوبة، وشهر الرحمة وغيرها، وكل هذه الأسماء والأوصاف دالة على فضله الكبير الذي حصره بعض العلماء في ثلاثة أمور هي: 1) أنه أنزل فيه اللهُ العليم الخبير هذا القرآن، هدى للناس، وبيِّنات من الهدى والفرقان، وجعله شفاءً مما لا يستطيع أمهر الأطباء وأحكمُهم شفاء الناس منه، وهو ما توسوس به النفس والشياطين في الصدور، مما ينعكس على سلوك الناس وتصرُّفاتهم.
2) جعل فيه ليلةً خيرا من ألف شهر، فمن صادفها -بالحرص عليها- أغنته.. وندعو الله الكريم أن يجعلنا من المكرَمين بهذه الليلة المباركة.
3) أنّ من صامه “إيمانا واحتسابا” غُفر له ما اقترفه من ذنوب، ولو كانت مثل زبد البحر.. ولم يخلُ، ولا يخلو، ولن يخلوَ بشرٌ من ذنب جلّ أو قلّ.. وقد قال أبو الأنبياء إبراهيم -عليه السلام- عن الله -عز وجل- “والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين” رغم أن الله الذي يعلم السر وأخفى وصف إبراهيم بأنه “وفَّى”.
ولكن “آية الله” الإمام محمد البشير الإبراهيمي -كما سماه العالمُ المغربي محمد إبراهيم الكتاني (جريدة العلم المغربية 2-3 أكتوبر 1951)- سمّى هذا الشهر تسمية غريبة مستمدة من آثاره في المجتمعات المسلمة، وهذه التسمية هي أن رمضان هو “جبَّارُ الشهور”. (آثار الإمام الإبراهيمي ج3. ص 477).
إن حياة المسلمين تتبدل -ولو ظاهريا- تبدلا عجيبا، في هذا الشهر المتميز بإحياء روافد الخير، وإرهاف أحاسيس البر، وإيقاظ شواعر التراحم، ويسود نوعٌ من التديُّن -ولو كان مغشوشا- وتتبدل حتى مواقيت النوم والعمل، وتُغلق المقاهي في النهار وكذلك المطاعم، ومنها ما لا يعمل طوال الشهر الفضيل حتى ليُخيَّل إلى الناس أن فاسق الأمس ناسكٌ… أما من تجرّأ من الفساق على انتهاك حرمة هذا الشهر، فإن “جنوده” وهم الأطفال يرجمونه كما يرجم الحجاجُ إبليس في منى.
وما أفقه شعبنا المسلم قبل أن تستحوذ على ثقافته “عصابة السوء”، من الشيوعيين واللائكيين عندما كان يسيِّدُ شهر رمضان من دون الشهور فيسمِّيه “سيدنا رمضان”.
الحمد لله الذي بلَّغنا رمضان، ونسأله أن يمنَّ علينا بقبول ما نأتيه من طاعات، ويهدي خرافَنا الضالة، اللاهثة، في حالتي الحمل عليها أو التَّرك.