فضاءات جنين بورزق

جنين بورزق

فضاء الثقافة والمواضيع العامة

العضو الأكثر فعالية على مستوى الـبلدية
حجيرة ابراهيم ابن الشهيد
مسجــل منــــذ: 2010-10-19
مجموع النقط: 3352.98
إعلانات


متّى تُـربِّــيــنــا صلاتـنا ويهذّبُـنـا صيـامـنـــا؟

متّى تُـربِّــيــنــا صلاتـنا ويهذّبُـنـا صيـامـنـــا؟                         

 

سلطان بركاني

2022/03/27

 

 

ستّة أيام بقيت تفصلنا عن حلول رمضان، هذا الشّهر الذي كان في قرون مضت وعقود سلفت شهرا لتخليص النّفوس من عيوبها وآفاتها وكفّها عن غوائلها وشهواتها، شهرا للرحمة والتآزر والتعاون؛ يحسّ فيه الأغنياء والموسرون بمعاناة الفقراء والمحتاجين، فيمدّون الأيدي بالصّدقات والأعطيات.. لكنّ الواقع تغيّر في السّنوات الأخيرة، حين أصبح رمضان في حياة كثير من المسلمين شهرا للموائد المليئة والأطباق المنوّعة، وموسما للإسراف والتبذير ومضاعفة المصاريف، والانكفاء على رغبات النّفس عن حاجات الآخرين.

خلال العامين الأخيرين، ازداد الطّين بلّة، بالأزمات التي توقد قبيل رمضان وفي أيامه حول بعض الموادّ الاستهلاكية؛ حيث تشهد الأسواق ندرة في بعض الموادّ وارتفاعا جنونيا لأسعار موادّ أخرى.. من غلاء البطاطا، إلى أزمة الزّيت، إلى أزمة السّميد… ما تكاد تنفرج أزمة حتّى تبدأ أخرى!

من يختلقون هذه الأزمات ويصنعونها هم الحيتان الكبيرة، أصحاب البطون الكبيرة المتدلية التي لا تشبع، تجار الأزمات ومصّاصو الدّماء الذين لا يخافون الله ولا يحسبون حسابا لليوم الآخر.. وهؤلاء مهما جمعوا فإنّ الفقر لن يفارق قلوبهم وسيظلّ ماثلا بين أعينهم.. حالهم كحال العطشان الذي يشرب من ماء البحر، كيف لا وقد حاق بهم دعاء النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- حينما قال: “اللهم من ولى من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه”، مع ما يلحقهم من الإثم العظيم والعذاب الأليم في الآخرة: يقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: “منِ احْتَكَرَ حِكْرَةً يُريدُ أن يُغْلِيَ بها على المسلمينَ فهو خاطِئ” (أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد)، ويقول: “من احتكر طعامًا أربعين ليلة فقد برئ من الله تعالى، وبرئ الله تعالى منه” (أخرجه أحمد).

نعم، هناك حيتان كبيرة تتلاعب بالأسعار وبالأقوات، لكن، ألسنا نحن الطبقة الكادحة وبسطاء النّاس من نتسبّب بجشعنا وهلعنا وأنانيتنا في نجاح خطط ومؤامرات الحيتان الكبيرة؟ أليس بيننا من يكتنز في بيته قناطير السميد وعشرات القارورات من الزيت تحسبا واستعدادا لرمضان، وكأنّ رمضان هو شهر الأكل وليس الصّوم؟

الحيتان الكبيرة تطلق الشّائعات لترُوج تجاراتُها وتتضاعف أرباحها في أوقات قياسية.. ونحن نتلقّف إشاعاتها ونتدافع أمام المحلات وفي الأسواق ويدوس بعضنا على بعض للظّفر بقارورات الزيت وأكياس السميد والحليب؟

فما الذي دهانا؟ أين يقيننا بالله الرزاق القائل سبحانه: ?وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ?؟ أما سمعنا عشرات المرّات قول المصطفى الذي لا ينطق عن الهوى: “والذي نفس محمّد بيده لن تموت نفس قبل أن تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه في غير طاعة الله، فما عند الله لا يؤخذ إلا بطاعته” (رواه الطبراني)؟

لماذا نكرّر نفس الأخطاء في كلّ مرّة؟ في العام الماضي أشيع أنّ الأوراق النقدية ستعرف ندرة في مراكز البريد، فانطلقنا نتدافع أمامها بكلّ هلع وشره، كلٌّ يريد أن يسحب أمواله كلّها ويكدّسها في البيت؟ وأشيع خبر ندرة السّميد، فانطلقنا نحو المحلات نحمل الأكياس ومنّا من حمل القناطير ليخزنها في بيته ربّما خوفا من الجوع، على الرّغم من أنّ أكثر البيوت تعتمد على الخبز.. حتّى أنّ بعض الهلوعين اضطروا بعد ذلك إلى رمي مخزون السّميد عقب انقشاع الأزمة.. وها نحن الآن نكرر نفس الخطأ ونتدافع لاقتناء ما يزيد على حاجتنا من السّميد والزّيت، ونتّجه بإرادتنا لنكون لقمة سائغة للحيتان الكبيرة ولكبار التجّار الذين يريدون إنفاق سلعهم!

نتنافس على السميد خوفا من أن ينقطع في رمضان، ثمّ إذا أقبل رمضان أقبلنا على اقتناء الخبز، وتركنا السّميد في البيوت! وحتّى الخبز الذي نقتنيه، يذهب كثير منه إلى القمامة، حيث تشير بعض الإحصاءات إلى أنّ الجزائريين يرمون 12 مليون خبزة في المزابل كلّ يوم خلال الشّهر الفضيل!

وممّا زاد الطّين بلّة والأزمة حدّة، أنّ كثيرا من التجّار ما عادوا يخافون الله.. ما عاد يهمّهم إلا الاستثمار في الأزمات والمناسبات لتحقيق أوفر الأرباح في أقصر الأوقات، فيغالون في الأسعار بما يرهق جيوب البسطاء ويسيل العرق البارد على وجوههم.. التجار الذين يستغلّون الأزمات ليجنوا وافر الأرباح، ويستغلّون الشّهر الفضيل لتحقيق أكبر المكاسب.. التجار الذين ينظرون إلى رمضان على أنّه فرصة العام. لم يعد رمضان بالنّسبة إليهم شهرا للرحمة والتراحم، إنّما أصبح بالنّسبة إليهم شهرا لمضاعفة الأرباح.. أما يخاف هؤلاء نقمة العزيز الجبّار: عن معقل بن يسار -رضي الله عنه- أنه قال: سأحدثكم شيئا ما سمعته من رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- مرة ولا مرتين، سمعت رسول الله يقول: “من دخل في شيء من أسعار المسلمين، ليغليه عليهم كان حقًّا على الله تبارك وتعالى أن يقعده من النار.. والله إنّه لأمر مؤسف حقا أن نرى بعض المتاجر الكبيرة في بلاد الغرب تخفّض أسعار بعض المواد الاستهلاكية في رمضان، إعانة للمسلمين، بينما يُشعل بعض المسلمين النّار في جيوب إخوانهم!

تجّارنا الذين يبيعون الحليب والزّيت والسّميد لمعارفهم ويمنعونها عن البسطاء، تجّارنا الذين يخبّؤون الزّيت لأصحاب المناصب والأكتاف العريضة ويمنعونها عن الفقراء؛ إذا دخل على الواحد منهم فقير يطلب الحليب كشّر في وجهه وردّه قائلا: “ما كانش”، وإذا دخل الميسور أعطاه أكياس الحليب وأخرج له الزّيت.. فهل نسي هؤلاء أنّ الله يراهم؟ هل نسوا قول النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: “التجار هم الفجار”. قالوا يا رسول الله، أليس قد أحل الله البيع؟ قال: “بلى. ولكنهم يحلفون ويأثمون، ويحّدثون فيكذبون”.

نحن مقبلون على شهر عظيم فضيل، هو فرصة سانحة للتخفّف من الذّنوب وموسم رابح لتربية النّفس وتهذيبها وتخليصها من الجشع والهلع والحرص.. وفرصة لعتق الرقاب ببذل الصّدقات ورحمة الخلق ومدّ يد العون والتيسير على عباد الله.

لماذا يا ترى نستسلم في كلّ مرّة لأنفسنا الأمّارة بالسّوء فننظر إلى رمضان على أنّه شهر لملء البطون؟ لماذا يكون الهمّ الأكبر لنا بين يدي رمضان من كلّ عام، لا يبتعد عن المصروف والأواني والمواد الغذائية؟

ليس حراما ولا مكروها أن يفرح المسلم بفطره ويأكل ممّا أباحه الله، لكن أن تكون مائدة الإفطار هي أهمّ شيء في يومه، يفكّر فيها طول النّهار، ولا يكاد يتحدّث في ساعات الصيام إلا عن الأصناف التي توضع فوق المائدة، وربّما يصل به الأمر إلى حدّ شغل زوجته وبناته بها طول النّهار، بل ربّما تقضي الزّوجة معظم الليل وهي تغسل الأواني، فتحرم القيام والتهجّد؟ يقول أبو الحسن الندوي -رحمه الله-: “تضخَّمت معِدةُ الحِرصِ في الإنسان؛ حتى صارت لا يُشبعُها مِقدارٌ من المال، وتَوَلَّدَ في الناسِ غليلٌ لا يُرْوى، وأُوار لا يُشفى، وأصبحَ كلُّ واحدٍ يحملُ في قلبِه جهنمَ لا تزالُ تبتلعُ وتستزيدُ، ولا تزال تنادي: هل من مزيد؟ هل من مزيد؟” (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟)

رمضان يفترض أن يكون شهر الالتفات إلى القلب والرّوح، شهرا لتربية النفوس وتهذيبها، شهرا لوضع خطوة مهمّة على طريق إخراج الدّنيا الدنية من القلوب، عملا بقول الله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ?.. أحد عشر شهرا ونحن نجري خلف الدنيا في شره، لا همّ لكثير منّا إلا ما يدخل بطنه.. يأتي بعدها شهر رمضان ليعيننا على المراجعة والإصلاح، ليذكّرنا بأنّنا أرواح تهفو إلى السّماء وقلوب تخفق للعلياء ولسنا بطونا تلتصق بالتراب والغبراء.

إنّه ليس يليق بالإنسان أن يكون عبدا لبطنه وشهوته، لا يرفض لنفسه طلبا ولا يردّ لبطنه مطلبا ممّا يزيد على حاجته ويوصله إلى الإسراف والتبذير، ويصل به إلى رمي الأطعمة في القمامة.. كلّما اشتهت بطنه مدّ يده إلى جيبه، وكلّما اشتهى اشترى: عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: رأى عمر بن الخطاب لحماً معلقاً بيدي، فقال: ما هذا يا جابر؟ قلت: اشتهيت لحماً فاشتريته، فقال: أو كلما اشتهيتَ اشتريتَ يا جابر!

رمضان فرصة كلّ تاجر مسلم ليزيد رصيده من الحسنات، بأن يكون أمينا صادقا، سمحا في بيعه، راجيا أن يكون في ركب من قال عنهم النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: “التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ” (الصّحيحة)، وممّن دعا النبيّ لهم بالرّحمة حين قال: “رحم الله رجلا سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى” (رواه البخاري).

رمضان فرصة التاجر المسلم ليتاجر مع الله، في إنظار الفقراء والمعسرين، وبين عينيه قول النبيّ -عليه الصّلاة والسّلام-: “من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله في ظله” (رواه مسلم)، وقوله صلوات ربّي وسلامه عليه: “كان تاجر يداين الناس فإذا رأى معسرا قال لفتيانه تجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه” (رواه البخاري ومسلم).

رمضان فرصة لنتعاون ونتراحم، ولم لا، ليؤثر بعضنا بعضا.. ووالله لو تحلّينا بالتراحم بدل التّزاحم لانتهت الأزمة في أسبوعين.. قدوتنا أصحاب النبيّ -صلّى الله عليه وآله وسلّم- كانوا في وقت الأزمات والضّيق يجمعون ما عندهم ليقتسموه بينهم بالسوية: عن أبي موسى الأشعريّ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ?: “إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني، وأنا منهم” (متفق عليه).

رمضان فرصة لنربّي أنفسنا على السّكينة والطمأنينة وعلى ترك الجزع والهلع.. خاصّة أنّنا نصلّي ونخطّط لنكون بين القائمين والمتهجّدين؛ فلا يليق أبدا لعبد يصلّي لله أن يكون هلوعا جزوعا.. يقول الله تعالى: ((إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)).. المصلّي ينبغي له أن يكون هانئا هادئا، واثقا برحمة ربّه وفضله، محسنا ظنّه بمولاه، لا يخاف من الغد ولا من الفقر؛ فلنكن من المصلّين الذين تنهاهم صلاتهم عن الهلع والجزع والشّره، ولنكن من الصّائمين الذين ينهاهم صيامهم عن اللغو والرّفث، والله من وراء القصد وهو يهدي السّبيل.


تقييم:

0

0
مشاركة:


التعليق على الموضوع


لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...

...........................................

=== إضافة تعليق جديد ===
الإسم:

نص التعليق:

انقل محتوى صويرة التحقق في الخانة أسفله:
الصورة غير ظاهرة