المجاهرة بالمعاصي وآثارها على الفرد والمجتمع
المجاهرة بالمعاصي وآثارها على الفرد والمجتمع
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
في الصحيحين، يقول عليه الصلاة والسلام: ”كلّ أمّتي مُعافى إلّا المجاهرين، وإنّ من المجاهرة أن يعمل الرّجل باللّيل عملًا، ثمّ يصبح وقد ستره الله عليه فيقول: يا فلان عملتُ البارحة كذا وكذا، وقد بات يَستُره ربّه ويصبح يكشف ستر الله عنه».
قال الحافظ ابن حجر: ”المجاهر هو الّذي أظهر معصيته وكشف ما ستر الله عليه فيحدّث بها، أمّا المجاهرون في الحديث الشّريف فيحتمل أن يكون بمعنى من جهر بالمعصية وأظهرها، ويحتمل أن يكون المراد الّذين يجاهر بعضهم بعضًا بالتحدّث بالمعاصي، وبقية الحديث تؤكّد المعنى الأوّل”.
ترى لماذا كلّ الأمّة معافاة إلّا أهل الإجهار؟ والجواب أنّ في الجهر بالمعصية استخفافًا بمن عُصي، استخفاف بحقّه، وبحقّ رسوله الكريم، واستخفاف بالمجتمع برمّته.
واعلم رعاك الله أنّ المعاصي تذلّ أهلها في الدّنيا قبل الآخرة، وللأسف فإنّ المجاهرة بالمعصية والتبجّح بها، بل والمفاخرة قد صارت سمة من سمات بعض النّاس في هذا الزّمان، يفاخرون بالمعاصي ويتباهون بها، ورد في الموطأ أنّ رجلًا اعترف على نفسه بالزّنا، فدعَا له رسول الله بسوط، فأتي بسوط مكسور، فقال: ”فوق هذا”، (أي: أصلب منه)، فأتي بسوط جديد لم تقطع ثمرته، فقال: ”دون هذا”، فأتي بسوط قد ركب به ولان (أي: لا هو يابس ولا هو ليِّن) فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلد ثمّ قال: ”أيّها النّاس، قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله، من أصاب من هذه القاذورات شيئًا فليستتر بستر الله، فإنّه مَن يبدي لنا صفحته نُقِم عليه كتاب الله”.
إنّ الذّنوب والمعاصي عاقبتها وخيمة: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُون}. وأعظم الذّنوب المجاهرة بها، ومعناها أن يرتكب الشّخص الإثم علانية أو يرتكبه سرًّا فيستره مولاه، ولكنّه يُخبر به بعد ذلك مستهينًا بستر الله له: {لاَّ يُحِبُّ الله الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا عَلِيمًا}. فالله تعالى لا يحبّ لأحد من عباده أن يجهر بالأقوال السّيّئة أو الأفعال السّيّئة إلّا من وقع عليه الظّلم، فإنّه يجوز له أن يجهر بالسّوء من القول في الحدود الّتي تمكّنه من رفع الظّلم عنه دون أن يتجاوز ذلك، قال القرطبي رحمه الله: والّذي يقتضيه ظاهر الآية أنّ للمظلوم أن ينتصر من ظالمه، ولكن مع اقتصاد، فأمّا أن يقابل القذف بالقذف ونحوه فلا، وإن كان مجاهرًا بالظّلم دعا عليه الدّاعي جهرًا، ولم يكن لهذا المجاهر عِرض محترم، ولا بدن محترم، ولا مال محترم.
ويروي أبو داود في سننه عن عائشة رضي الله عنها أنّها سرق لها شيء فجعلت تدعو عليه (أي على السّارق) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ”لا تسبخي عنه” أي: لا تخفّفي عنه العقوبة بدعائك عليه، وعقد الإمام البخاري بابًا قال فيه: باب: لصاحب الحقّ مقال، ويُذكر عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ”لَيُّ الواجد يحلّ عقوبته وعرضه”، فالمماطلة من القادر على دفع الحقوق لأصحابها ظلم يبيح للنّاس أن يذكروه بالسّوء.
وأخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم أنّ المجاهرة بالمعاصي لها عقوبات في الدّنيا قبل الآخرة، فعند ابن ماجه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ”يا معشر المهاجرين: خمس إذا ابتليتُم بهنّ وأعوذ بالله أن تدركوهنّ، لم تظهر الفاحشة في قوم قطّ حتّى يُعلنوا بها إلّا فَشَا فيهم الطّاعون والأوجاع الّتي لم تكن مضت في أسلافهم الّذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلّا أخذوا بالسِّنِين وشدّة المئونة وجور السّلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلّا منعوا القطر من السّماء ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلّا سلّط الله عليهم عدوًّا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيّروا ممّا أنزل الله إلّا جعل الله بأسهم بينهم”، فإشاعة المعاصي والتّباهي بها يحمل النّاس الآخرين على التّقليد والوقوع فيها، والشّريعة الغرّاء إنّما حذّرت من المجاهرة بالمعصية، لما في ذلك من آثار خطيرة، فالمجاهر يدعو غيره ويجذبه، ويزيّن له ويُغريه؛ ولذلك كانت المجاهرة بالمعصية جريمة نكراء، وخطرًا محدقًا بالأمّة جمعاء.
ومن الأمثلة على الجهر بالمعاصي في حاضرنا تبرّج النّساء بشكل سافر في الأسواق والأماكن العامة، ومنها بيع الحرمات كالدخان والمخدّرات، ومنها ظهور ما يسمّى زورًا بالفنانات وهنّ سافرات على شاشات القنوات الفضائية ليُهَيِّجنَ الغرائز ويَفتِنَّ الشّباب: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ}.
إمام مسجد عمر بن الخطّاب، بن غازي - براقي