بوتين يعلن نهاية مرحلة التردد الاستراتيجي
محمد سليم قلالة
22/02/2022
كانت أمريكا تغزو العالم والآخرون ينددون بخرق القانون الدولي ويتوعدون بالرد. وكان الحلف الأطلسي يفعل ذلك ولا أحد يستطيع ردعه، في العراق، كوسوفو، ليبيا، أفغانستان، سورية… ناهيك عن التدخلات غير المباشرة والانقلابات العسكرية وثورات الربيع المختلفة وما يحدث في فلسطين… أما اليوم فقد حدث العكس. وُجدت الدولة، وظهر الزعيم الذي يُذيق الغربَ مرارةَ الكأس التي أذاق منها غيره: القيصر “فلاديمير بوتين”.
لم يتردد الرئيس الروسي في حماية مصالحه، ولم يُعِر الغرب أيَّ أهمية. اعترف بجمهوريتي “دونيتسك” و”لوغانسك” التي يرى أنهما ستكونان حليفتيه. ولم يهتم لموقف الآخرين، الحلف الأطلسي أو الاتحاد الأوروبي أو أيّ دولة أخرى في العالم تُعاديه.
إنه يقول لهم: الشرّ بالشر والبادئ أظلم. ما الذي أباح للأمريكيين وحلفائهم الغربيين التدخلَ في الشؤون الداخلية لأوكرانيا باسم نشر الحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية؟ مَن سعى لنقل قواته العسكرية نحو الآخر؟ مَن يقف على حدود مَن؟ الولايات المتحدة البعيدة في قارة أخرى، أم روسيا التي هي في عقر دارها وبين شعوبها؟
يبدو أنها لحظاتٌ فارقة في تاريخنا المعاصر اليوم. إننا نعيش مرحلة تحوُّل من هيمنة الغرب الأحادية على العالم بقيادة أمريكا إلى مرحلة تعدُّد القوى التي تُمكِّن كل طرف من الدفاع عن مصالحه والمساهمة في إعادة التوازن الدولي.
لقد أوشك عهدُ الهيمنة الكلية على العالم بقيادة الولايات المتحدة على نهايته، وعلينا التصرُّف على هذا الأساس، ليس لأن روسيا فعلت ما تريد، ولكن لأن الصين أيضا فعلت ما تريد، وإيران أيضا فعلت ما تريد، ومالي أيضا فعلت ما تريد، حتى لا نذكر إلا هؤلاء… لم يعد الخروج عن الهيمنة الأمريكية أو الفرنسية أو الانجليزية أمرا مستحيلا. لقد فتح الرئيس “بوتين” ثغرة في الجبهة العسكرية للغرب، وفتحت الصين ثغرة في جبهته الاقتصادية، وما علينا إلا إعادة بناء إستراتجيتنا وفق هذا المنظور. ينبغي وضع حدٍّ لتردُّدنا الاستراتيجي مع مَن وضد مَن، وقد أعلن “بوتين” اليوم نهايته. لقد بات واضحا أن الغرب الليبرالي الذي سبق وأن ظلمنا بالاحتلال والاحتقار والنهب ومسخ الهوية والتاريخ ومحاولة الإذلال الحضاري، وتآمر على وَحدة صفنا وعَوْدَتنا إلى الذات واستعادة حقوقنا المشروعة في السيادة على ثرواتنا ومقدساتنا وأراضينا المحتلة في فلسطين إلى اليوم، هذا الغرب يعرف انقساما داخليا ينبغي إدارتُه على أحسن وجه.
بكل تأكيد، ليس المطلوب أبدا هو الانتقال من وصيٍّ إلى آخر، أو من تبعيةٍ إلى أخرى، ولكن المطلوب هو إعادة تَموقع استراتيجي في الوقت المناسب وقبل فوات الأوان. وعلينا استخلاص الدرس من صراع اليوم الذي هو في عمقه علميٌّ وتكنولوجي واقتصادي انعكس على القدرات العسكرية. لو لم يُدرك الغرب قدرة “بوتين” التكنولوجية في مجال الحرب الالكترونية، ولم لم يكن على علم بتحالفاته الاقتصادية مع الصين وتطلعه للخروج من هيمنة الدولار معها، لكان الغزو المباشر مصيره من أول يوم. أما وقد أصبح أكثر من مُحصَّنٍ علميا واقتصاديا، فإن التردد لدى هذا الغرب هو سيِّدُ الموقف، وشعار فرض العقوبات هو الأكثر تداولا كسبيل “محتشم” للخروج من هذا المأزق العالمي.
بلا شك، لا يمكن لأي عاقل قَبول اعتداء دولة على أخرى، أو قَبول اللجوء إلى الحرب لتسوية الخلافات، إلا أن تسليم بعض الجيران لأراضيهم للعدوّ، وجعلها منطلقا للتجسُّس والتهديد، من شأنه أن يُبرِّر الحق المشروع في الدفاع عن النفس مثلما هو الحال بالنسبة للرئيس “بوتين”. إنه لم يتصرف قطّ كمعتد إنما كمدافع واقعي عن مصالح بلده ومستبق محاولات قادمة للإضرار بشعبه أكثر، عبر أوكرانيا “الشقيقة”.