نخوة ابناء غور الصافي والمزرعة والحديثة
نخوة عشائر الأغوار الجنوبية:
يعرف العلامة روكس بن زايد العزيزي النخوة في معلمته( على أنها العظمة والحماسة والمروءة وجمعها نخوات )(1) ويقال للرجل تحريكا لهمته ( ما عندك نخوه ) فالنخوة إذا كلمة أو عبارة تثير همة الفرد وحماسته للمكارم والأفعال الحميدة (2)
وتشترك العشيرة الواحدة أو أكثر من عشيرة في نخوة معينة وربما يتميز مجتمع كامل بنخوة أو أكثر , وأكثر ما تكون النخوة أو الانتخاء في مواقف الشدة أو مواقف الأفراح أو الأتراح , مما يبث الهمة في النفوس ويلهب حماس الناس ومشاعرها0
وان ما يميز مجتمع الأغوار بشكل عام تلك النخوات المشتركة بين العشائر الغورانية بحيث لا يشعر القادم بان ثمة فرق بين عشيرة وأخرى , ويلاحظ ذلك في المناسبات المختلفة , كالأفراح حيث يهب الناس جميعهم ومن كل الأطياف للمشاركة في ذلك الفرح , ومساعدة العريس على الأغلب ماديا لمواجهة الأعباء المادية للزواج ويكون ذلك على شكل نقوط يقدم للعريس أما في الأتراح فإن الناس وعلى اختلاف فئاتهم يقفون في طوابير طويلة تدفعهم النخوة والحمية للمشاركة في العزاء وقبل ذلك السير في الجنائز , بغض النظر عن الشخص المتوفى , وكذلك يقدم الناس لأهل المتوفى النقل (3) أو المواد العينية كالطحين أو السكر للتخفيف عن أهل الميت0
وفي العمل وعندما كانت الناس تمارس الأعمال الشاقة كالزراعة أو سقف البيت بالاسمنت فان الناس تحركها نخوة ( المعونة ) للعمل مع صاحب الأرض وذلك بمعاونته في عمل الدواليب وتنظيف الأرض وفي مواسم الحصاد( اللقاط ) حيث يشاركونه في جني محصوله دون مقابل وفي البناء كان اغلب الناس يشاركون صاحب البيت في صب بيته ( الصبة ) لتخفيف العبء عنه وعن أسرته ومن أشهر المشاركين في الصبات حيث كان صاحب البيت يذهب إليه مباشرة أو الى والده للسماح له بالصبة ( محمد عوض الله العشوش الشهير بابو حمده وعيسى علي البوات عويس وعيسى سلامه الخليفات وعلي عوض الخطبا وإبراهيم حماد الشمالات لهلو) جزاهم الله خيرا والذين شاركوا في اغلب صبات منطقة الصافي 0
إن مجتمع الأغوار وفي الأحداث الجسام كالدم يظهر تسامحا وتراحما منقطع النظير بحيث ضرب فيهم المثل في التسامح وكظم الغيض والعفو عن الناس فلا عدوان ولا أحقاد ولا اخذ بثار لديهم بل على العكس من ذلك فان المصاب منهم يكون أول المبادرين للعفو والتسامح , ونخوتهم في ذلك العفو والمغفرة لطيبة قلوبهم ونقائها وهو الأمر الذي تميزوا به على مر العصور 0
لقد حاول البعض لابل الكثيرون اعتبار تلك الأخلاق الغورانية نوعا من الضعف أو المنقصة وضياع الحق لبث التفرقة بينهم والنيل من طيبتهم في التسامح , ولكن أبناء الأغوار تساموا على ذلك ولم تنل منهم فكرة خذ حقك بيدك ولافكرة مئة عين تبكي ولا عين أمي تبكي ولا فكرة كل شاه معلقه بعرقوبها ولا فكرة أنا وابن عمي على الغريب وأنا واخوي على ابن عمي ولا فكرة الموت مع الجماعة رحمة وإنما كان فكرهم دوما الإيثار والعفو عند المقدرة0
1- معلمة التراث / ج2 ص 429
2- لواء الكوره الأرض والإنسان ص 125
3- النقل: مبلغ من المال يقدم لأهل المتوفى كنوع من النخوة للتخفيف عن أهل الميت وقد يكون مواد عينيه كالسكر أو الطحين أو الرز وفي بعض الأحيان إذا كانت الأحوال ميسره تقام مآدبه للنساء المقيمات في العزاء , بالتناوب بين أسرة واكثر0 ومن مظاهر النخوة دعوة ( المكسرين ) أهل الميت وعشيرته الى مأدبة تقيمها العشائر الأخرى
بعض من نخوات عشائر الأغوار:
النخوة العامة لعشائر الأغوار هي (المعونة والفزعة ) غبر أن بعض العشائر تحركها وفي المواقف الصعبة نخوات خاصة بها يعرفها ويرددها أبناء العشيرة الواحدة :
فنخوة عشيرة العشوش كبرى عشائر اللواء هي ( الحشي ) فإذا الم بهم خطب قالوا وانا أخوك يالحشي أو يادافع البلاء فكلمة الحشي كفيلة بان تجمعهم وتوحد صفوفهم وهذا معروف عنهم والحشي تنحدر من كلمة حش اسم الشهرة لجدهم (عواد الحش ) فهم وان كثرت أفخاذهم وتباينت تربطهم نخوة الحشي الذي لا يسكت على ضيم ولا يرضى بالظلم0
أما نخوة عشيرة البوات فهي ( بني بو ) ويعود ذلك لقصة احد أجدادهم الذي قام بحشو جلد حوار الناقة بالعشب ليوهم أمه بأنه حي لتظل تدر له الحليب , ومن هنا يذكرون بعضهم بهذه القصة والقاسم المشترك فيها هو الحليب أي أنهم شربوا من حليب واحد , إن مجرد سماع البواتي أو البوي لكلمة بني بو كفيلة بجعلهم يتحدون الصعاب ويقهرونها 0
أما نخوة عشائر كالخطبا هي ( الخطبي ) والمعاقله ( المعيقلي ) والمشاعله ( المشيعلي ) والزهران ( الزهراني ) فهذه النخوات وان تعددت جميعها تشير الى التوحد والتجمع تحت اسم العشيرة الذي يثير في الفرد النخوة والحمية ولكن ليست حمية الجاهلية بل حمية التعاون والتكاتف ورص الصفوف ,أما أبناء محفوظ المحافظة فنخوتهم هي ( أبناء محفوظ ) فالمحيفظي قد يحارب اقرب الناس إليه مقابل نخوته أبو محفوظ ولا يمكن للمحيفظي الكيل بمكيالين أو المساومة أمام نخوته ( أبو محفوظ)
أما نخوة عشيرة العشيبات فهي ( أبو عشيبه ) نسبة لجدهم أبو عشيبه هذه الكلمة الكفيلة بان تجعل العشيبي مستعدا لخوض غمار الموت لأنها تعني له الكرم والجود ومواجهة الشدائد , كل ذلك لأنهم من نسل أبي عشيبه أول ساكني الأغوار ولأنه مكرم الضيف وحاميه
أما نخوة عشيرة الخليفات آل زايد فهي ( الفزعة ) فإذا الم بأحدهم مكروه تداعوا نساء ورجالا لنجدته ومساعدته والوقوف الى جانبه كما لو كانوا أبناء من أم واحدة وإذا ما استنجد بهم احد انتخوا له وفزعوا الى جانبه ولو كان ذلك على حساب مصالحهم الخاصة ولذلك نجدهم قد قدموا الكثير دون مقابل 0
أما نخوة عشيرة الشعار فهي ( خشان ) جدهم ووالد احد رجالات الأغوار الكرماء عبد الله الخشان
وينادي الناس اغلب أفراد هذه العشير( بابو خشان) تذكيرا له بجده خشان المشهور بكرمه وطيبته
أما نخوة عشيرة المرادات فهي ( أهل العلا ) فهذه الكلمة إذا تناهت الى سمع المريدي هب ملبيا النداء لان العلا يعني لهم الكثير 0
أما أبناء الشمالات فنخوتهم ( المعونه ) فهم يتميزون عن باقي العشائر بالمعونة التي تكفل لهم التراحم والتكافل وقد كان الشمالي لاتقر له عين إلا إذا عاون أخيه الشمالي وساعده في التغلب على ظروفه القاسية 0
أما الأكراد فتخوتهم ( أهل الوفاء) لأنهم عاشوا وترعرعوا على ارض الأغوار أخوانا للغوا رنه تربطهم علاقة الحسب والنسب بأبناء الأغوار أوفيا على العهد مخلصين للغور وأهله
ومن مظاهر النخوة عند أبناء الأغوار النسب والزواج بين العشائر دون قيود فقد زوج أبو عشيبه أغلى بناته للحشي وزوج عرمان احد أبناء عودة الله بن عواد الحش كل من بناته ( زعله وزعول وتمام وخضره وثريا ) لأبناء العشائر الأخرى (1)
1- زعله زوجة سليمان خليل أم الحاج إبراهيم الخليفات وزعول زوجة محمد دعسيان وتما م زوجة عليان الطعمه أبو محمد عليان وخضره العرمان زوجة حميد الدغيمات
أما عن عشائر غور المزرعة والذين لا يختلفون عن عشائر غور الصافي من حيث النخوة فهم وان تفاوتت أشكال النخوة عندهم , فان القاسم المشترك بينهم هو تلك الحمية , والغيرة والاندفاع نحو الخير , فهم أهل غيرة تربطهم نخوة ( المزرعي ) الذي إذا قال وفى والمزرعي, حامي ضيفه ومكرم جاره , والمدافع عن حقه, ولو على دمه, وهو لا يقبل الضيم ويصبر على المكاره , تعففا وعزة , وان نابهم خطب أو ادلهم بهم أمر هبوا جميعا لنجدة ملهوفهم , قائلين ( وأنا أخوك يالمزرعي ) 0
ليس هناك مظهر معين أو خاص بعشيرة معينة لعشائر المزرعة من حيث نخوتهم , فالهويملي والدغيمي والعجلوني والنواصري والخنازري والجعاري والمغيصبي والنوايشي وال عون الخ00 جميعها مفردات كفيلة بان تجمع أبناء العشيرة الواحدة , لدفع الضيم , وإغاثة الملهوف , والوقوف صفا واحدا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا 0
والمزرعي اخو الصافي لا تكاد تميز الواحد منهم عن الأخر , والقاسم المشترك بينهم الطيبة وبساطة العيش والرضى بالقليل قناعة وقبولا , وقد احتضن المزرعي الصافي , في الأحداث الجسام , فقد كانت المزرعة , إبان ( الهجه ) عندما اجتاح الإسرائيليون غور الصافي( معركة الكرامة) , الحضن الدافئ لابن الصافي , حيث استقبل وامن على ماله وأولاده وعياله , واليوم يفخر أبناء المزرعة بسجلهم الحافل بالعطاء والكرم , وحسن الطوية والمعشر , كما ويباهون بانتمائهم وحبهم لأرضهم مصدر رزقهم وعيشهم , والأرض عندهم لا تقبل القسمة على اثنين وهي لديهم كما العرض خط احمر لا يسمح بتجاوزه لأي كان 0
والمعونة مظهر أخر من مظاهر النخوة لدى أبناء المزرعة , ومن أشكالها , المعونة في البناء وزراعة الأرض ,وفي الأفراح والأتراح , وقطف الثمار , والدم , و طلب العلم 0
والفزعة أخت المعونة عندهم فهم كالجسد الواحد إذا أصيب منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى , وهي فزعة خير, ونخوة تجمعهم ولا تفرقهم , تفرحهم ولا تحزنهم , مؤطرة بقيم الخير والإيمان والالتزام بما قسم الله , ولسان حالهم الشكر والثناء على ما قسم الله 0
أخر المطاف:
مواعظ وعبر :
من خطبة قس بن ساعده الأيادي في سوق عكاظ
" أيها الناس , اسمعوا وعووا ، إنه من عاش مات ، ومن مات فات وكل ما هو آت آت ، ليل داج ونهار ساج ، وسماء ذات أبراج ، ونجوم تزهر ، وبحار تزخر ، وجبال مرساة ، وأرض مدحاة ، وأنهار مجراة . إن في السماء لخبرا ، وإن في الأرض لعبرا . ما بال الناس يذهبون ولا يرجعون ؟
أرضوا بالمقام فأقاموا ؟ أم تركوا هناك فناموا ؟" يقسم قس بالله قسما لا إثم فيه ، إن لله دينا هو أرضى لكم ، وأفضل من دينكم الذي عليه ، إنكم لتأتون من الأمر منكرا .
يا معشر إياد ، أين الآباء والأجداد ؟ أين الفراعنة الشداد ؟ ألم يكونوا أكثر منكم مالا ، وأطول آجلا ثم أنشأ يقول :
في الـــــذاهــــــــبين الأولــــــــــــين مــــن القــــــــرون لنا بصـــــــــــــائر
لــــــــــما رأيت مــــــــــــــــــواردا للمــــــــوت ليس لهــا مصــــــــــــادر
ورأيت قومـــــــــي نحـــــــــــــوها تمضـــي الأكــــــابر والأصـــــــــاغر
لا يرجـــــــع الماضــــــــــــــي إلي ولا مــــــــن الباقــــــين غـــــــــــــابر
ألفيت أنـــــــــي لا محـــــــــــــــالة حيث صار القـــــــــوم صـــــــــــــائر (1)
ومن جميل وصايا العرب وصية أمامه بنت الحارث لابنتها أم إياس لحظة زفافها :
" أي بنية ، إنك فارقت الجو الذي منه خرجت ، وخلفت العش الذي فيه درجت ، إلى رجل لم تعرفيه ، وقرين لم تألفيه ، فاحملي عني عشر خصال تكن لك ذخرا : اصحبيه بالقناعة ، وعاشريه بحسن السمع والطاعة ، وتعهدي موقع عينه ، فلا تقع عينه منك على قبيح ، ثم اعرفي وقت طعامه ، واهدئي عند منامه ، فإن حرارة الجوع ملهبة ، وتنغيص النوم مبغضة ، ثم اتقي مع ذلك الفرح أمامه إن كان ترحا ، والاكتئاب عنده إن كان فرحا ، فإن الخصلة الأولى من التقصير ، والثانية من التكدير ، وكوني أشد الناس له إعظاما ، يكن أشدهم لك إكراما ، واعلمي أنك لا تصلين إلى ما تحبين حتى تؤثري رضاه على رضاك وهواه على هواك ، فيما أحببت أو كرهت " . (2)
ويقول شاعر العربية الأكبر أبو الطيب المتنبي :
صحب الناس قبلنا ذا الزمــــــان وعناهـــــــم من أمره ما عنانا
وتولـــوا بغصة كلهم منــــــــــه وإن سر بعضهم أحيـــــــــــانا
ربمـــا تحسن الصنيع ليالــــــيه ولكــن تكـدر الاحســــــــــــانا
وكأن لم يرض فينا بريب الدهر حتـى أعـــانه مــا أعـــــــــــانا
كلمــــا أنبت الزمــــــــــان قناة ركب المــرء في القناة ســــنانا
ومراد النفوس أصغر مـــن أن تتعـــــادى فيه وأن تتفانـــــــــى
غير أن الفتـــى يلاقي المــنايا كالحــــات ولا يلاقي الهـــــوانا
ولو أن الحياة تبقـــــى لحــــي لعددنا أضــــــلنا الشجعــــــــانا
وإذا لم يكـــن من المــــوت بد فمن العجــــز أن تكون جـــــبانا
كل مالم يكن من الصعب في الأنفـــــــــــــــــــس سهل إذا هو كانـــــــــــــــــــا (3)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- أنظر تاريخ وظواهر من الأدب العربي/ وزارة التربية والتعليم ص24
2- المصدر نفسه .
3- شرح ديوان المتنبي للبرقوقي ج4 ص221 .
يعرف العلامة روكس بن زايد العزيزي النخوة في معلمته( على أنها العظمة والحماسة والمروءة وجمعها نخوات )(1) ويقال للرجل تحريكا لهمته ( ما عندك نخوه ) فالنخوة إذا كلمة أو عبارة تثير همة الفرد وحماسته للمكارم والأفعال الحميدة (2)
وتشترك العشيرة الواحدة أو أكثر من عشيرة في نخوة معينة وربما يتميز مجتمع كامل بنخوة أو أكثر , وأكثر ما تكون النخوة أو الانتخاء في مواقف الشدة أو مواقف الأفراح أو الأتراح , مما يبث الهمة في النفوس ويلهب حماس الناس ومشاعرها0
وان ما يميز مجتمع الأغوار بشكل عام تلك النخوات المشتركة بين العشائر الغورانية بحيث لا يشعر القادم بان ثمة فرق بين عشيرة وأخرى , ويلاحظ ذلك في المناسبات المختلفة , كالأفراح حيث يهب الناس جميعهم ومن كل الأطياف للمشاركة في ذلك الفرح , ومساعدة العريس على الأغلب ماديا لمواجهة الأعباء المادية للزواج ويكون ذلك على شكل نقوط يقدم للعريس أما في الأتراح فإن الناس وعلى اختلاف فئاتهم يقفون في طوابير طويلة تدفعهم النخوة والحمية للمشاركة في العزاء وقبل ذلك السير في الجنائز , بغض النظر عن الشخص المتوفى , وكذلك يقدم الناس لأهل المتوفى النقل (3) أو المواد العينية كالطحين أو السكر للتخفيف عن أهل الميت0
وفي العمل وعندما كانت الناس تمارس الأعمال الشاقة كالزراعة أو سقف البيت بالاسمنت فان الناس تحركها نخوة ( المعونة ) للعمل مع صاحب الأرض وذلك بمعاونته في عمل الدواليب وتنظيف الأرض وفي مواسم الحصاد( اللقاط ) حيث يشاركونه في جني محصوله دون مقابل وفي البناء كان اغلب الناس يشاركون صاحب البيت في صب بيته ( الصبة ) لتخفيف العبء عنه وعن أسرته ومن أشهر المشاركين في الصبات حيث كان صاحب البيت يذهب إليه مباشرة أو الى والده للسماح له بالصبة ( محمد عوض الله العشوش الشهير بابو حمده وعيسى علي البوات عويس وعيسى سلامه الخليفات وعلي عوض الخطبا وإبراهيم حماد الشمالات لهلو) جزاهم الله خيرا والذين شاركوا في اغلب صبات منطقة الصافي 0
إن مجتمع الأغوار وفي الأحداث الجسام كالدم يظهر تسامحا وتراحما منقطع النظير بحيث ضرب فيهم المثل في التسامح وكظم الغيض والعفو عن الناس فلا عدوان ولا أحقاد ولا اخذ بثار لديهم بل على العكس من ذلك فان المصاب منهم يكون أول المبادرين للعفو والتسامح , ونخوتهم في ذلك العفو والمغفرة لطيبة قلوبهم ونقائها وهو الأمر الذي تميزوا به على مر العصور 0
لقد حاول البعض لابل الكثيرون اعتبار تلك الأخلاق الغورانية نوعا من الضعف أو المنقصة وضياع الحق لبث التفرقة بينهم والنيل من طيبتهم في التسامح , ولكن أبناء الأغوار تساموا على ذلك ولم تنل منهم فكرة خذ حقك بيدك ولافكرة مئة عين تبكي ولا عين أمي تبكي ولا فكرة كل شاه معلقه بعرقوبها ولا فكرة أنا وابن عمي على الغريب وأنا واخوي على ابن عمي ولا فكرة الموت مع الجماعة رحمة وإنما كان فكرهم دوما الإيثار والعفو عند المقدرة0
1- معلمة التراث / ج2 ص 429
2- لواء الكوره الأرض والإنسان ص 125
3- النقل: مبلغ من المال يقدم لأهل المتوفى كنوع من النخوة للتخفيف عن أهل الميت وقد يكون مواد عينيه كالسكر أو الطحين أو الرز وفي بعض الأحيان إذا كانت الأحوال ميسره تقام مآدبه للنساء المقيمات في العزاء , بالتناوب بين أسرة واكثر0 ومن مظاهر النخوة دعوة ( المكسرين ) أهل الميت وعشيرته الى مأدبة تقيمها العشائر الأخرى
بعض من نخوات عشائر الأغوار:
النخوة العامة لعشائر الأغوار هي (المعونة والفزعة ) غبر أن بعض العشائر تحركها وفي المواقف الصعبة نخوات خاصة بها يعرفها ويرددها أبناء العشيرة الواحدة :
فنخوة عشيرة العشوش كبرى عشائر اللواء هي ( الحشي ) فإذا الم بهم خطب قالوا وانا أخوك يالحشي أو يادافع البلاء فكلمة الحشي كفيلة بان تجمعهم وتوحد صفوفهم وهذا معروف عنهم والحشي تنحدر من كلمة حش اسم الشهرة لجدهم (عواد الحش ) فهم وان كثرت أفخاذهم وتباينت تربطهم نخوة الحشي الذي لا يسكت على ضيم ولا يرضى بالظلم0
أما نخوة عشيرة البوات فهي ( بني بو ) ويعود ذلك لقصة احد أجدادهم الذي قام بحشو جلد حوار الناقة بالعشب ليوهم أمه بأنه حي لتظل تدر له الحليب , ومن هنا يذكرون بعضهم بهذه القصة والقاسم المشترك فيها هو الحليب أي أنهم شربوا من حليب واحد , إن مجرد سماع البواتي أو البوي لكلمة بني بو كفيلة بجعلهم يتحدون الصعاب ويقهرونها 0
أما نخوة عشائر كالخطبا هي ( الخطبي ) والمعاقله ( المعيقلي ) والمشاعله ( المشيعلي ) والزهران ( الزهراني ) فهذه النخوات وان تعددت جميعها تشير الى التوحد والتجمع تحت اسم العشيرة الذي يثير في الفرد النخوة والحمية ولكن ليست حمية الجاهلية بل حمية التعاون والتكاتف ورص الصفوف ,أما أبناء محفوظ المحافظة فنخوتهم هي ( أبناء محفوظ ) فالمحيفظي قد يحارب اقرب الناس إليه مقابل نخوته أبو محفوظ ولا يمكن للمحيفظي الكيل بمكيالين أو المساومة أمام نخوته ( أبو محفوظ)
أما نخوة عشيرة العشيبات فهي ( أبو عشيبه ) نسبة لجدهم أبو عشيبه هذه الكلمة الكفيلة بان تجعل العشيبي مستعدا لخوض غمار الموت لأنها تعني له الكرم والجود ومواجهة الشدائد , كل ذلك لأنهم من نسل أبي عشيبه أول ساكني الأغوار ولأنه مكرم الضيف وحاميه
أما نخوة عشيرة الخليفات آل زايد فهي ( الفزعة ) فإذا الم بأحدهم مكروه تداعوا نساء ورجالا لنجدته ومساعدته والوقوف الى جانبه كما لو كانوا أبناء من أم واحدة وإذا ما استنجد بهم احد انتخوا له وفزعوا الى جانبه ولو كان ذلك على حساب مصالحهم الخاصة ولذلك نجدهم قد قدموا الكثير دون مقابل 0
أما نخوة عشيرة الشعار فهي ( خشان ) جدهم ووالد احد رجالات الأغوار الكرماء عبد الله الخشان
وينادي الناس اغلب أفراد هذه العشير( بابو خشان) تذكيرا له بجده خشان المشهور بكرمه وطيبته
أما نخوة عشيرة المرادات فهي ( أهل العلا ) فهذه الكلمة إذا تناهت الى سمع المريدي هب ملبيا النداء لان العلا يعني لهم الكثير 0
أما أبناء الشمالات فنخوتهم ( المعونه ) فهم يتميزون عن باقي العشائر بالمعونة التي تكفل لهم التراحم والتكافل وقد كان الشمالي لاتقر له عين إلا إذا عاون أخيه الشمالي وساعده في التغلب على ظروفه القاسية 0
أما الأكراد فتخوتهم ( أهل الوفاء) لأنهم عاشوا وترعرعوا على ارض الأغوار أخوانا للغوا رنه تربطهم علاقة الحسب والنسب بأبناء الأغوار أوفيا على العهد مخلصين للغور وأهله
ومن مظاهر النخوة عند أبناء الأغوار النسب والزواج بين العشائر دون قيود فقد زوج أبو عشيبه أغلى بناته للحشي وزوج عرمان احد أبناء عودة الله بن عواد الحش كل من بناته ( زعله وزعول وتمام وخضره وثريا ) لأبناء العشائر الأخرى (1)
1- زعله زوجة سليمان خليل أم الحاج إبراهيم الخليفات وزعول زوجة محمد دعسيان وتما م زوجة عليان الطعمه أبو محمد عليان وخضره العرمان زوجة حميد الدغيمات
أما عن عشائر غور المزرعة والذين لا يختلفون عن عشائر غور الصافي من حيث النخوة فهم وان تفاوتت أشكال النخوة عندهم , فان القاسم المشترك بينهم هو تلك الحمية , والغيرة والاندفاع نحو الخير , فهم أهل غيرة تربطهم نخوة ( المزرعي ) الذي إذا قال وفى والمزرعي, حامي ضيفه ومكرم جاره , والمدافع عن حقه, ولو على دمه, وهو لا يقبل الضيم ويصبر على المكاره , تعففا وعزة , وان نابهم خطب أو ادلهم بهم أمر هبوا جميعا لنجدة ملهوفهم , قائلين ( وأنا أخوك يالمزرعي ) 0
ليس هناك مظهر معين أو خاص بعشيرة معينة لعشائر المزرعة من حيث نخوتهم , فالهويملي والدغيمي والعجلوني والنواصري والخنازري والجعاري والمغيصبي والنوايشي وال عون الخ00 جميعها مفردات كفيلة بان تجمع أبناء العشيرة الواحدة , لدفع الضيم , وإغاثة الملهوف , والوقوف صفا واحدا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا 0
والمزرعي اخو الصافي لا تكاد تميز الواحد منهم عن الأخر , والقاسم المشترك بينهم الطيبة وبساطة العيش والرضى بالقليل قناعة وقبولا , وقد احتضن المزرعي الصافي , في الأحداث الجسام , فقد كانت المزرعة , إبان ( الهجه ) عندما اجتاح الإسرائيليون غور الصافي( معركة الكرامة) , الحضن الدافئ لابن الصافي , حيث استقبل وامن على ماله وأولاده وعياله , واليوم يفخر أبناء المزرعة بسجلهم الحافل بالعطاء والكرم , وحسن الطوية والمعشر , كما ويباهون بانتمائهم وحبهم لأرضهم مصدر رزقهم وعيشهم , والأرض عندهم لا تقبل القسمة على اثنين وهي لديهم كما العرض خط احمر لا يسمح بتجاوزه لأي كان 0
والمعونة مظهر أخر من مظاهر النخوة لدى أبناء المزرعة , ومن أشكالها , المعونة في البناء وزراعة الأرض ,وفي الأفراح والأتراح , وقطف الثمار , والدم , و طلب العلم 0
والفزعة أخت المعونة عندهم فهم كالجسد الواحد إذا أصيب منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى , وهي فزعة خير, ونخوة تجمعهم ولا تفرقهم , تفرحهم ولا تحزنهم , مؤطرة بقيم الخير والإيمان والالتزام بما قسم الله , ولسان حالهم الشكر والثناء على ما قسم الله 0
أخر المطاف:
مواعظ وعبر :
من خطبة قس بن ساعده الأيادي في سوق عكاظ
" أيها الناس , اسمعوا وعووا ، إنه من عاش مات ، ومن مات فات وكل ما هو آت آت ، ليل داج ونهار ساج ، وسماء ذات أبراج ، ونجوم تزهر ، وبحار تزخر ، وجبال مرساة ، وأرض مدحاة ، وأنهار مجراة . إن في السماء لخبرا ، وإن في الأرض لعبرا . ما بال الناس يذهبون ولا يرجعون ؟
أرضوا بالمقام فأقاموا ؟ أم تركوا هناك فناموا ؟" يقسم قس بالله قسما لا إثم فيه ، إن لله دينا هو أرضى لكم ، وأفضل من دينكم الذي عليه ، إنكم لتأتون من الأمر منكرا .
يا معشر إياد ، أين الآباء والأجداد ؟ أين الفراعنة الشداد ؟ ألم يكونوا أكثر منكم مالا ، وأطول آجلا ثم أنشأ يقول :
في الـــــذاهــــــــبين الأولــــــــــــين مــــن القــــــــرون لنا بصـــــــــــــائر
لــــــــــما رأيت مــــــــــــــــــواردا للمــــــــوت ليس لهــا مصــــــــــــادر
ورأيت قومـــــــــي نحـــــــــــــوها تمضـــي الأكــــــابر والأصـــــــــاغر
لا يرجـــــــع الماضــــــــــــــي إلي ولا مــــــــن الباقــــــين غـــــــــــــابر
ألفيت أنـــــــــي لا محـــــــــــــــالة حيث صار القـــــــــوم صـــــــــــــائر (1)
ومن جميل وصايا العرب وصية أمامه بنت الحارث لابنتها أم إياس لحظة زفافها :
" أي بنية ، إنك فارقت الجو الذي منه خرجت ، وخلفت العش الذي فيه درجت ، إلى رجل لم تعرفيه ، وقرين لم تألفيه ، فاحملي عني عشر خصال تكن لك ذخرا : اصحبيه بالقناعة ، وعاشريه بحسن السمع والطاعة ، وتعهدي موقع عينه ، فلا تقع عينه منك على قبيح ، ثم اعرفي وقت طعامه ، واهدئي عند منامه ، فإن حرارة الجوع ملهبة ، وتنغيص النوم مبغضة ، ثم اتقي مع ذلك الفرح أمامه إن كان ترحا ، والاكتئاب عنده إن كان فرحا ، فإن الخصلة الأولى من التقصير ، والثانية من التكدير ، وكوني أشد الناس له إعظاما ، يكن أشدهم لك إكراما ، واعلمي أنك لا تصلين إلى ما تحبين حتى تؤثري رضاه على رضاك وهواه على هواك ، فيما أحببت أو كرهت " . (2)
ويقول شاعر العربية الأكبر أبو الطيب المتنبي :
صحب الناس قبلنا ذا الزمــــــان وعناهـــــــم من أمره ما عنانا
وتولـــوا بغصة كلهم منــــــــــه وإن سر بعضهم أحيـــــــــــانا
ربمـــا تحسن الصنيع ليالــــــيه ولكــن تكـدر الاحســــــــــــانا
وكأن لم يرض فينا بريب الدهر حتـى أعـــانه مــا أعـــــــــــانا
كلمــــا أنبت الزمــــــــــان قناة ركب المــرء في القناة ســــنانا
ومراد النفوس أصغر مـــن أن تتعـــــادى فيه وأن تتفانـــــــــى
غير أن الفتـــى يلاقي المــنايا كالحــــات ولا يلاقي الهـــــوانا
ولو أن الحياة تبقـــــى لحــــي لعددنا أضــــــلنا الشجعــــــــانا
وإذا لم يكـــن من المــــوت بد فمن العجــــز أن تكون جـــــبانا
كل مالم يكن من الصعب في الأنفـــــــــــــــــــس سهل إذا هو كانـــــــــــــــــــا (3)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- أنظر تاريخ وظواهر من الأدب العربي/ وزارة التربية والتعليم ص24
2- المصدر نفسه .
3- شرح ديوان المتنبي للبرقوقي ج4 ص221 .
