أ.د. عبد الرزاق قسوم
رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين/
توشك الأعياد والمناسبات الدينية والوطنية معا، أن تفقد مبناها ومعناها، في حياتنا الخاصة والعامة. فقدت المناسبات إذن، كيوم الهجرة، ويوم المولد، وحتى أيام العيد، أو أول نوفمبر، أو الخامس من يوليو، فقدت كل هذه الأيام، وهجها في القلوب والعقول.
فباستثناء، بعض المظاهر المادية، أو المراسيم الرسمية، لم تعد الأعياد والمناسبات تجد لدى مجتمعنا، ما يجده عيد أول السنة الميلادية، أو «النويل» لدى غيرنا، أو لدى بعض المنسلبين منا، من أجواء الفرحة، وتبادل الهدايا، وتسجيل الحدث بكل مظاهر التخفيضات الاقتصادية، والتجارية، في الأسعار، الخ.
نقول هذا، ونحن نحيي ذكرى الفاتح من محرم، ذكرى الهجرة النبوية، التي تمثل تحولا في تاريخ الأمة الإسلامية قاطبة، بل وحتى في تاريخ الإنسانية، فباستثناء تعطيل العمل، أو تخصيص أكلة شعبية ما، لا يتبادل عامة الناس التهاني، كما يفعل عامة المجتمعات الغربية في أعيادهم.
ومما زاد القلب لوعة، والعين دمعة أن يحل فاتح العام الهجري عندنا هذه السنة، ونحن نعيش ساعة العسرة فيربض المئات منا في المستشفيات، حبيسي وباء الكورونا، ويحصد الموت منا العشرات، من كل أطياف المجتمع.
كما ضاعف من حسرتنا، أن تحرق الغابات وهي عنوان جزائرنا الخضراء، ورمز الخصوبة والنّماء تحرق هذه الغابات في يوم محرم، يوم ميلاد الأمة الإسلامية الواحدة الموحدة.
فهذا الإجرام البربري في هذا اليوم بالذات لم يأت صدفة، وإنما جاء للطعن في الهجرة النبوية التي هي علم الوجود الإسلامي، ومن خلاله الوجود الإنساني في إرساء القيم وتحصين الذمم، وإعلاء الهمم.
إن من المعاني التي يجب أن نستخلصها ونتسلى بها، في هذه الساعة العصيبة، ساعة العسرة هي أن نسمو عن الماديات، ونخضع للتأمل الدروس والعظات، ومن هذه المعاني:
1- إن مسافة الهجرة بين مكة والمدينة، تعادل في معناها، ومبناها مسافة ما بين السماء والأرض.
ذلك أن مكة التي هي أحب بلاد الله إلى قلب النبي صلى الله عليه وسلم، هي التي عانى فيها اليتم في صغره، بموت أبيه، وعانى فيها اليتم في كبره بتمرد قومه على دعوته، فألحقوا به كل أنواع الأذى، فكان الإخراج من مكة إلى المدينة التي لقي فيها النصرة وحباها الرسول بقوله: «اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة!».
2- المعنى الثاني من معاني الهجرة النبوية أنها لم تنتج عن ضعف، يبحث عن قوة، أو عن هلع ينشد الطمأنينة، وإنما هي في حد ذاتها قوة تبحث عن قوة أوسع، وأعظم، وأشمل. ? كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ? [سورة الأنفال، الآية 5 ].
3- المعنى الثالث للهجرة، أن مرحلة ما قبل الهجرة، مثلت الهجرة النفسية لكل مظاهر الجاهلية، من عبادة الأوثان، وتأليه الأصنام الحجرية والبشرية، أي القضاء على كل أنواع الخنوع والخضوع، وكذلك حماية الإنسان من كل أنواع الفجور، والخمور، والموبقات، إعدادا للعقل والقلب ليكونا الوعاء الصافي لتلقي الوحي الطاهر.
4- إن هذه الهجرة النفسية للأباطيل الجاهلية التي قاد محمد في شبابه، عملية التحرير منها، قد كانت الإعداد الحقيقي لشخصية النبي مزودة بالعزم الفولاذي، الذي يجعل هذه الشخصية تستهين بكل التحديات، فبهذا العزم الفولاذي صرخ النبي محمد، في وجه عمه أبي طالب «والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر، حتى يُظهره الله أو أهلك دونه، ما تركته».
5- يجب أن نقرأ دروس الهجرة، بالعين التي في العقل، وبالقلب المزود بالإيمان الصحيح، وكما قال تعالى: ? وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ? [سورة يوسف، الآية 105].
في هذه السبحات الإيمانية، يجب أن نستعرض اللحظات التاريخية للهجرة، وأن ننزلها على واقع العسرة الذي نعاني تبعاته، بالوباء، وإجرام الخونة العملاء.
بات ضروريا، علينا – أكثر من أي وقت مضى – أن نوحد الصفوف، وأن نزيد من تقديم العون والدعم، للمريض، والمستغيث والملهوف.
فإضافة إلى إسعاف المصابين، بالأكسجين والدواء، للقضاء على الوباء، وجب أن نضاعف أيضا من وتيرة التضامن نحو إخوتنا الذين يفترشون الأرض المحرقة، ويتغطون بالسماء، فهم في حاجة إلى الماء، والغذاء والكساء، والغطاء، خصوصا في منطقة الأخلاء من زواوة الخضراء، التي حولها المجرمون إلى حمراء، وسوداء، محاربة للنماء.
نقول لأبنائنا وبناتنا، في منطقة القبائل العزيزة، إن كل أجزاء شعبكم، ستقف إلى جانبكم، وها نحن في جمعية العلماء، أمكم الحاضنة لكم، قد سيرت قوافل الماء، والغذاء والغطاء، وندعو باقي المناطق إلى مزيد من الهبة الوطنية التضامنية كما عودنا أهلها، في ساعة العسرة، فإخوانكم ضحايا حرق الزيتون والليمون يعانون وأملهم هو انتظار عطفكم الحنون.
ورب ضارة نافعة، فالذين راهنوا من الأعداء والعملاء، على إثارة الأحقاد، والفتن والشحناء هاهم يلعقون جراحهم، ويشاهدون بأم أعينهم مدى تلاحم شعبنا، من تلمسان إلى تيزي وزو ومن تبسة إلى تمنراست في كنف الوحدة الوطنية والأخوة الإسلامية، ?لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ?[سورة الأنفال، الآية 63].
وكما قال رائدنا عبد الحميد ابن باديس: «ما جمعته يد الله، لا يمكن أن تفرقه يد الشيطان»، فحمدا لله الذي وهبنا الإسلام الذي منه نستلهم المعاني والعبر، كلما، اشتدت بنا الأزمات، وأظلمت الصور، وها هي الهجرة النبوية التي علمتنا، بأبعادها ومقاصدها، كيف نبني قواعد المجد بسواعدنا، ونوعي الجميع بضرورة الاعتماد على الاكتفاء الذاتي لإمكانياتنا.
ورحم الله إمامنا محمد البشير الإبراهيمي الذي صاح فينا ذات يوم بقوله: «إن الوطن الذي يعمر بمال الأجنبي، ويد الأجنبي، وعِلم الأجنبي، محكوم عليه بالخراب وإن تعالت في الأفق قبابه، وكسيت بوشي السماء هضابه، وسالت بذهب الأرض شعابه» [آثار الإمام – ج3 – ص 474].
تقييم:
0
0
مشاركة:
التعليق على الموضوع
لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...
...........................................
=== إضافة تعليق جديد ===
في موقع خبار بلادي نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين خدماتنا. وبالضغط على OK، فإنك توافق على ذلك، ولمزيد من المعلومات، يُرجى الاطلاع على سياسة الخصوصية.