وهل نملك غير الكلام والإنكار؟
وهل نملك غير الكلام والإنكار؟
سلطان بركاني
2021/05/10
كلّما ألمّت بالأمّة الإسلاميّة ملمّة ونزلت بساحتها نائبة، وما أكثر النّوائب التي تنزل بساحة الأمّة في هذا الزّمان، وتحرّكت ألسُنُ وأقلام الغيورين على دين الأمّة ودماء وأعراض أبنائها، تعلن النّكير وتستهجن تخاذل ولاة الأمور في نصرة قضايا الأمّة وتقاعسهم عن حقن دماء أبنائها، تنطلق في المقابل أقلام وألسُن النّاقمين على كلّ شيء! والمعترضين على كلّ سعي! لتقول للغيورين والمتكلّمين: أنتم لا تحسنون غير الكلام، والكلام لا يغيّر شيئا!
نعم الكلام وحده لا يقدّم ولا يغيّر شيئا في منظور المتشائمين الذين كبّلوا عقولهم بثنائية “كلّ شيء أو لا شيء”، فأنت بالنّسبة إليهم إمّا أن تنطلق لتحرّر فلسطين وتفكّ أسر المسجد الأقصى، أو تمسك لسانك وقلمك، بل إنّ دُعاءك بنصر المستضعفين وردّ عدوان المعتدين، عبث ولغو، في موازينهم!.. إمّا أن تغيّر بيدك المنكرات التي تتحدّث عنها أو تبلع لسانك! وكأنّ المسلمين كلّهم قد مُهّدت أمامهم طريق القدس ولم يبق لهم سوى أن يتّخذوا قرار الانطلاق! وتأتّى لهم تغيير المنكرات الحاصلة ولم يبق لهم إلا أن يتحرّكوا!
هؤلاء النّاقمون ينسون أنّ الكلام -لمن لا يملك غيره- هو سببٌ لبقاء القلب حيا في مواجهة المنكرات التي تحصل في كلّ مكان من هذا العالم، والكلام مرتبة من مراتب تغيير المنكر، خاصّة بمن لا يستطيع ما هو أكبر من الكلام، وهو آثم إن تركها ونزل إلى ما هو دونها، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: “من رأى منكم منكرا فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان” (رواه مسلم).
صحيح أنّ من التقصير ومن المعيب في حقّ المسلم أن يكتفي بالكلام والكتابة إن كان يستطيع التغيير بيده، كمن يرى –مثلا- امرأة تهان أو يسرق متاعها، فيكتفي بالحوقلة والدّعاء على المعتدي مع قدرته على زجره وكفّ يده وردّه عمّا يريد، لكنّ من تعذّر عليه تغيير المنكر ونصرة المظلوم وردع الظّالم بيده، فإنّه يعذر في التخلّف عن التغيير باليد، لكنّه لا يعذر أبدا في تخلّفه عن الإنكار باللّسان، والإنكارُ باللّسان أيضا درجات، فليس من يستطيع الإنكار في وجه الظّالم، كمن لا يستطيع ذلك؛ فهذا الأخير يجب عليه أن ينكر في المكان الأكثر تأثيرا الذي يستطيع الإنكار فيه، ومن لم يستطع هذا ولا ذاك، فلا أقلّ من أن ينكر بلسانه في خلوته ويبرأ إلى الله من المنكر، ويدعو للمظلوم وعلى الظّالم.
هؤلاء الذين يريدون للأمّة أن تلزم الصّمت ما دام لم يعُد في مقدورها فعل شيء، يريدون للقلوب أن تألف المنكرات فتموت، ويختلط عليها المنكر بالمعروف مع مرور الوقت، ويريدون –من حيث لا يدرون- للظّالمين أن تقرّ أعينهم ويهدأ بالهم ويزيدوا في ظلمهم وعدوانهم، وهم يرون الألسنة قد أخرست، روى مسلمُ في صحيحه أنّ النبيّ –صلّى الله عليه وسلّم قال: “إنه يُسْتَعمَلُ عليكم أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع”.
الغيرة والحمية لدين الله، والغضب عند معاينة المنكرات، وتحرّك اللّسان بإنكار المنكر والظّلم، دليل على حياة القلب، ودليل على أنّ في قلب المنكِر بذرة خير لا تزال حيّة، مهما كان مقصّرا في بعض شرائع دينه.. ولهذا فليس يصحّ أبدا أن ننكر على شبابنا الذين يتكلّمون ويكتبون ويغضبون لمقدّسات وقضايا أمّتهم بحجّة أنّهم مقصّرون في دينهم وأنّ عليهم أن يتركوا المنكرات التي يقعون فيها قبل أن ينكروا المنكرات الأخرى وقبل أن يعلنوا نصرتهم للقدس وفلسطين!.. الإقامة على المنكرات منكر يجب تغييره، لكنّه ليس حاجزا بين العبد وبين إنكار منكرات أخرى ربّما تكون أشدّ، وليس عذرا في السّكوت عن قول كلمة الحقّ؛ فقد يكون المسلم مقصّرا في دينه، لكنّ قلبه يكره المعاصي التي يقع فيها بضعف نفس ويتمنّى أن يوفّقه الله للتّوبة منها، لذلك تجده ينصح من يقع فيها بالإقلاع عنها، وينكر ما هو أشدّ منها، ويشارك في كلّ عمل يقصد به نصرة الإسلام والمسلمين.. وقد سجّلت كتب السير أنّ أبا محجن الثقفي كان مقيما على شرب الخمر، وجُلد الحدّ على شربها أكثر من مرّة، لكنّ ذلك لم يمنعه من مشاركة المسلمين في معركة القادسية المشهورة (15هـ) ضدّ الفرس، حيث أبلى بلاءً حسنا، وكانت مشاركته وعفوُ سعد بن أبي وقاص عنه سببا في توبته من شرب الخمر.