ضاق صدرُ أحد كبرائنا من تعلّق أكثر الجزائريين وخيرتهم بالإمام عبد الحميد ابن باديس، ويسمع ترديدَهم لاسمه، لا تعلّق “الجاهليين” بالأشباح و”الكادرات”، ولكن حبّا فيما دعا إليه من مبادئ، وما قدّمه للجزائر من جليل الأعمال، وإيمانا بصادق الأقوال وأحسنها…
نادى هذا “الكبيرُ” أحدَ القابلين لـ”التسخير” بأقلامهم وألسنتهم، تسبيحا بـ”حمْد” ذلك الكبير، وتزلّفا إليه لعلّه يرضى عنه، فلمّا مثُل بين يديه قال له: “ألا يوجد في الجزائر إلا ابن باديس؟”.
فهم القابلُ للتسخير ملاحظة ذلك “الكبير”، وأدرك أنه يودّ أن تكون له في نفوس الجزائريين وعقولهم ما للإمام ابن باديس أو أكثر.. وما عمل الإمامُ لذلك، ولا “لهث” وراء تلك السمعة الكبيرة، والشهرة الواسعة؛ ولكنه أرضى اللهَ –عزّ وجلّ- بعمله فأرضى اللهُ –عزّ وجلّ- عنه عبادَه، وجعل له وُدّا مصداقا لقوله تعالى: “إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وُدّا”. ورغم حرب الضالين والمنحرفين للإمام، وتآمرهم عليه، وكيدهم له، وتربُّصهم به، فما زاده ذلك كله إلا ثباتا على مبادئه، ونشرا لها، ودعوة إليها، وتسامحا مع خصومه…
رجع ذلك القابلُ للتسخير إلى مكتبه، وأحضر أوراقا، وراح يكتب كلاما لم يُرِد به وجه الله –عزّ وجلّ- ولكن أراد أن يتقرّب به إلى “وليّ نعمته”، وتمثّل نفسَه ابنَ هانئ أمام حاكم وقته، ولسان حاله يقول كلاما أقرب إلى “الكفر” أو هو “الكفر” بعينه:
ما شئتَ، لا ما شاءت الأقدارُ “فأمُر” فأنت “الواحد القهّار”.
كان عنوانُ ذلك المقال هو: “ابن باديس.. هل تجاوزه الزمان؟”.
و”مرّت الأيام” وتوالت الأعوام، فهلك “الكبيرُ” ولحقه –بعد أمّة- ذلك “الصغير”، وصدق اللهُ الذي لم يجعل لبشرٍ الخلدَ المادّي، ولكن وضع لمن أحبّه وأحبّ الناسَ الصالحين فيه قَبولا في الأرض بعد ما وضع لهم قَبولا عند ملائكته.
إن الإمام لم يعمل ما عمله لدنيا يصيبها، أو لشهرةٍ ينالها، أو مَحْمَدة ينشدها؛ ولكنه فعل فعاله وسعى سعيه إرضاءً لمن له الأمر من قبل ومن بعد، وقياما بما أوجبه عليه دينُه الحنيف وضميرُه الشريف، فالإمام ابن باديس لم يعش لهذه التفاهات من تعليق لـ”الصور” في العمارات، وإحاطتها بجميل الإطارات، بل نسي “حقّ نفسه” مؤثرا حقّ شعبه ووطنه.
لقد عاش الإمام ما عاش مؤمنا بمبادئ سامية، وقيم غالية، داعيا إليها، كادحا في سبيلها، ومن هذه المبادئ والقيم هذه الكلمات الثلاث “تعلّموا، تحابّوا، تسامحوا”، وقد نشرها في مجلته الشهاب (في شهر أوت من عام 1932، ص449)، وقد ذكر الأستاذان خالد مرزوق، ومختار ابن عامر في كتابهما “مسيرة الحركة الإصلاحية في تلمسان. ص133.ط. دار زمورة”، ذكرا أنّ الإمام ابن باديس لما زار تلمسان معرِّفا بجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، داعيا إلى نصرتها ومؤازرتها “وزّع على الحاضرين –في أحد المساجد- علبة صغيرة تضم ثلاث حبات من الحلوى، ومعها ورقة كتب عليها “تعلّموا، تحابّوا، تسامحوا”، فهل هذه المبادئ مما تجاوزه ويتجاوزه الزمان أو ينحصر في المكان؟ وهل نحن –أو العالم- في غنى عن هذه الثلاثية التي لا تقوم الحياة الحقيقية ولا تحلو، ولا تسعد الإنسانية جمعاء إلا بها؟
تقييم:
0
0
مشاركة:
التعليق على الموضوع
لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...
...........................................
=== إضافة تعليق جديد ===
في موقع خبار بلادي نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين خدماتنا. وبالضغط على OK، فإنك توافق على ذلك، ولمزيد من المعلومات، يُرجى الاطلاع على سياسة الخصوصية.