يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالأَصَالِ* رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ).
عندما نتأمل في هاتين الآيتين الكريمتين، ونرجع إلى تفسيرهما، ونتعمّق في ذلك، فإننا نجد أنهما تُبرزان أهمية المسجد ومكانته، ويُمكن بيان ذلك فيما يلي:
* أَذِنَ الله أن تُرفع بيوته: تُرفع معنوياً ومادياً، وذلك بتعميرها وبنائها وتقديسها وتعظيمها ورفع شأنها، والعناية بها بناء وصيانة ونظافة ومن جميع النواحي، وكذلك عمارتها بالصلاة والذّكر والتعليم، كل ذلك لتكون مُهَيَّأة لإقامة الشعائر الدينية وتيسيرها للمؤمنين، لأنّ الوظيفة الأولى للمسجد هي أنه مكان عبادة يُؤدي فيه المسلمون صلواتهم، ويذكرون ربهم، ويتفكرون فيما خلق الله وسخّره لهم، ويجتمعون مع بعضهم بعضًا في رحاب الإيمان، يرغبون في مرضاة ربهم، ساعين إلى المسجد بالسّكينة والوقار، لقوله
– صلّى الله عليه وسلّم -: (أَلا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟، قَالَوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ).
* لقد جعل الله المساجد لِيُذْكَرَ فيها اسمه وحده، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً)، فبيوت الله في الأرض المساجد، وقد رَغَّب رسول الله– صلّى الله عليه وسلّم – في بنائها، فقال– صلّى الله عليه وسلّم –: (مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِلَّهِ بَنَى اللَّهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ مِثْلَهُ).
دور المسجد
إنَّ المساجد بيوت الله، وأحبّ البقاع إليه، وهي ملتقى المصلين حيث يُؤدون صلاتهم جماعة، فهي أماكن العبادة ومصانع الرجال وتربية الأبناء، والبوتقة التي ينصهر فيها المسلمون جميعاً، وكي نتعرف على دور المسجد فإننا نعود إلى سيرة رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم – لنسير على هديه، فقد كان –صلّى الله عليه وسلّم – يُعَلِّم المسلمين أمور دينهم في المساجد، وكانت هناك أيام تُخَصَّصُ للنساء، كما كُنَّ يشهدنَ جماعة المسلمين في المساجد؛ لقوله –عليه الصلاة و السلام-: (لا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ)، وظلّ التعليم بعد النبي -صلّى الله عليه وسلّم – يُمارس في المساجد قروناً طويلة قبل أن تنشأ المدارس والجامعات الخاصة ، فقد ورد أن رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – قال: (مَنْ دَخَلَ مَسْجِدَنَا هَذَا لِيَتَعَلَّمَ خَيْرًا، أَوْ يُعَلِّمَهُ كَانَ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، ومن المعلوم أنّ الرجال الذين يُربون في المساجد، هم الرجال الذين يبنون النهضات، ويصنعون الحضارات، ويُكَوِّنون أرقى المجتمعات.
– فمن المسجد تخرّج الصحابة الكرام –رضي الله عنهم أجمعين- الذين ملأوا طباق الأرض علما.
– ومن المسجد صدرت الفتاوى التي رسمت حياة المسلمين في شَتّى المجالات.
– وفي المسجد كان الرسول – صلّى الله عليه وسلّم- يستقبل الوفود، ويعقد المعاهدات.
– وفي المسجد قام كُتَّاب الوحي بكتابة كتاب الله تعالى.
– وفي المسجد كتب رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – كُتُبه إلى الأمراء والحكام.
– وفي المسجد كان – عليه الصلاة والسلام – يقضي بين المسلمين ويفضّ خلافاتهم.
إِنّ دور المسجد هو جمع الأمة على اختلاف أجناسها وألوانها ولغاتها؛ لعبادة الله عزّ وجلّ في أهم عبادة ألا وهي الصلاة، حيث إِنّها عماد الدين، مَنْ أقامها فقد أقام الدين ومن هدمها فقد هدم الدين.
آداب المسجد
إِنّ المسجد مصدر للقيم والمشاعر الروحية، فالسعي إلى المسجد، والصلاة فيه جماعة، وذكر الله، وتلاوة القرآن، والتسبيح والتهليل، والجلوس في المسجد على طهارة، وفي تواضع لانتظار الصلاة بعد الصلاة، والبُعْد عمّا يُشغل الإنسان من أمور الدنيا؛ ليجعل المسلم في طمأنينة وهدوء وراحة نفسية ونفس راضية، فللمسجد آداب يجب الالتزام بها:
* لقد جعل الإسلام لدخوله دعاء، وللخروج منه دعاء، فقد ورد أنّ رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – قال: (إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلْيُسَلِّمْ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ، فَإِذَا خَرَجَ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ)، كما أنّ الداخل إليه يُصَلِّي ركعتين تحية لهذا المكان؛ لقوله -صلّى الله عليه وسلّم -: (إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ)، والجالس فيه يجب أن يكون في خشوع تام.
* وبيّن – عليه الصلاة والسلام – الأجر العظيم لمن يقوم بتنظيف المساجد، كما جاء في الحديث الذي رواه أبو هريرة- رضي الله عنه-في قصّة المرأَةِ الّتي كانتْ تَقُمُّ المسْجد، قال: فَسأَلَ عَنْها النّبيُّ -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم-، فَقَالُوا: ماتتْ، فَقَالَ: (أَفَلا كُنْتُمْ آذَنْتُمُوني بِهِ؟ دُلُّونِي على قَبْرِهَا، فَأَتى قَبْرَهَا، فَصَلَّى عَلَيْها).
* وحثّ على ضرورة التَّزيُّن والظهور بمظهر حسن ولائق عند ارتياد المساجد؛ لقوله سبحانه وتعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)، فالنظافة وأخذ الزينة أمر إلهي صريح، وذلك أدعى للتقدير والاحترام بين المؤمنين، لأنّ نفس الإنسان ترتاح للطهارة والنظافة وهذا يُساعد في تحقيق الانسجام والتآلف بين المسلمين.
* كما نهى الرسول – عليه الصلاة والسلام -عن البيع والشراء في المساجد، لقوله – صلّى الله عليه وسلّم- : (إِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ فِي الْمَسْجِدِ، فَقُولُوا: لا أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ).
* ولا يدخل المسجد مَنْ أكل طعاماً فيه رائحة كريهة وغير ذلك من المقتضيات الأخرى، حيث نُهينا عن تناول الأطعمة ذات الروائح النَّفَّاذة والمُزعجة إذا أردنا ارتياد المسجد لقوله – صلّى الله عليه وسلّم-: (مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ وَالثُّومَ وَالْكُرَّاثَ فَلا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا، فَإِنَّ الْمَلائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ).
* كما لا يجوز لأحد أن ينشد ضالته في المسجد لقوله – صلّى الله عليه وسلّم-: (مَنْ سَمِعَ رَجُلاً يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ، فَلْيَقُلْ: لا رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْكَ؛ فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا).
إنّ كتب الفقه الإسلامي ذكرت الكثير من آداب المسجد، وهي تهدف من وراء ذلك أن تجعل المسجد واحةَ راحةٍ وهدوء، ليؤدي دوره في حياة المسلمين على أكمل وجه.
المساجد في فلسطين
إِنَّ المساجد في فلسطين تَئِنُّ تحت نير الاحتلال، والمسجد الأقصى المبارك أسيرٌ ومُكَبَّل، ففي هذه الأيام تقوم قوات الاحتلال الإسرائيلي بمنع أعمال الترميم في قبة الصخرة المشرفة والمُصَلَّى المرواني وباب الرحمة داخل المسجد الأقصى المبارك، كما تقوم بتضييق الخناق على موظفي دائرة الأوقاف الإسلامية ولجنة الإعمار، بينما تسمح لعشرات اليهود المتطرفين من اقتحام ساحات الحرم القدسي وإقامة شعائر دينية تلمودية، ولا تخفى على أحدٍ مُخططات سلطات الاحتلال الإسرائيلي لبناء هيكلهم المزعوم مكان المسجد الأقصى المبارك، وما تقوم به قوات الاحتلال الإسرائيلي من إغلاق للمسجد الإبراهيمي ومنع رفع الأذان والتضييق على المصلين عنّا ببعيد.
إنّ هذه الأعمال الإجرامية ليست جديدة فقد سبقتها حوادث واعتداءات وإحراق مساجد متعددة في سائر أنحاء فلسطين، ومن الجدير بالذكر أيضاً أن قوات الاحتلال الإسرائيلي قامت بهدم العديد من المساجد في قطاع غزة خلال العدوان الأخير على القطاع، كما تم هدم العشرات من المساجد في فلسطين المحتلة عام 1948م وحَوَّلت العديد منها إلى متاحف ومقاهٍ وأماكن لممارسة اللهو والفجور، وتقوم سلطات الاحتلال الإسرائيلي بين الفينة والأخرى بهدم العديد من المساجد بحجة عدم الترخيص، ومن المعلوم أنَّ هذه الاعتداءات تهدف إلى طمس الآثار والمعالم الإسلامية والعربية، مِمّا يُعَدّ استفزازاً متعمداً لمشاعر المليار ونصف المليار مسلم في العالم.
إننا نطالب المؤسسات الدولية ومنظمة اليونسكو بضرورة التدخل الفوري لحماية جميع المساجد والمقدسات في فلسطين، وفي مقدمتها المسجد الأقصى المبارك الذي يتعرض لاعتداءات متكررة ومحاولات تهويدية مستمرة.
وصلّى الله على سيّدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين.
* خطيب المسـجد الأقصى المبـارك
وزير الأوقاف والشئون الدينية السابق
www.yousefsalama.com
تقييم:
0
0
مشاركة:
التعليق على الموضوع
لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...
...........................................
=== إضافة تعليق جديد ===
في موقع خبار بلادي نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين خدماتنا. وبالضغط على OK، فإنك توافق على ذلك، ولمزيد من المعلومات، يُرجى الاطلاع على سياسة الخصوصية.