*******أ.د. عبد الرزاق قسوم *****دمعـــــة وفــــــــاء، ورثــــاء علــى مـفـكـرنــــا مــحــمـــود يعــقــوبـــــي. محمــــود يعقــوبــي الذي أيـقـــظ العــقــل الجـــزائري من سبــاتــــه
دمعـــــة وفــــــــاء، ورثــــاء علــى مـفـكـرنــــا مــحــمـــود يعــقــوبـــــي. محمــــود يعقــوبــي الذي أيـقـــظ العــقــل الجـــزائري من سبــاتــــه
المحرر الأثنين 5 محرم 1442? 24-8-2020م
أ.د. عبد الرزاق قسوم *
ذلك الرجل الذي أوتي الحكمة الفلسفية، على صفاء عقل، ووضوح منهج، واستقامة سلوك. ومن أوتي الحكمة الفلسفية في مناخ قاحط، كمناخنا المتميّز بجهل لمعنى التفلسف، ورفض لها تحت عوامل شتّى، فقد حقق إبداعًا عظيمًا. فالأستاذ الدكتور محمود يعقوبي، يعود إليه الفضل في وضع لبنات البناء العقلي الفلسفي في الجزائر، ذلك أنّه ولج مجالاً، كانت الفلسفة فيه تعاني من الجهل بها لغربتها في مجال ثقافي محدود، ولانسلابها لأنّها تقدّم من منظور أجنبي، لقلّة قليلة، منبتة، لا تملك انتماء حضاريًا، ولا قبولاً لدى الأصول الفلسفية. دخلت الفلسفة جزائرنا المستقلة مع قلّة قليلة من المثقفين، كان في مقدمتهم محمود يعقوبي، فعمل على إيقاظ عقل الناشئة من سباتهم، فأدخل في عقولهم جرعة فلسفية على قدر عقولهم، فكان كتابه القيّم الوجيز في الفلسفة ثم ألحقه بكتب فلسفية شبه مفصّلة للموجز، فكان كتابه المختار في النصوص الفلسفية، ثم معجم الفلسفة، ثم المقالة الفلسفية وإنّها –كما ترى- كتب تصّب كلّها في وعاء واحد، هو تكوين المَلَكَة العقلية الفلسفية، وإيقاظ العقل الفتي من سباته، وبعثه في رحلة الحياة مع أقطاب الفكر الفلسفي. ثم جاء التأصيل الفلسفي لمعنى التفلسف في ثقافتنا، فألّف الدكتور محمود يعقوبي كتابه «أصول الخطاب الفلسفي»، ثم كتابه الآخر «المنطق الفطري في القرآن الكريم». إنّ هذه العيّنات من عناوين الكتب، إنّما تنم كلّها عن حسٍّ فلسفي دقيق وعقل ديني عميق عند الرجل مثبتا بذلك تذليل الصعاب، وفتح السبل أمام التأمل الفلسفي، بمنهجية فلسفية واضحة، وبذلك يكون يعقوبي أحد الماهدين –بحق- للتفكير الفلسفي في الجزائر. ولقد ساعد على هذا الاستعداد العقلي الفلسفي المتأصل عند الأستاذ محمود يعقوبي مجموعة من العوامل، ساهمت كلّها في تكوّنه وتكوينه، ويمكن حصرها في عيّنات على سبيل المثال لا الحصر، وأهمّها: 1- النشأة في واحات طبيعية خصبة يطبعها صفاء الذهن، وبساطة العيش، وخضرة الطبيعة، وفساحة الأفق، وأصالة الانتماء، وكلّها تجسدها مدينة الأغواط، بواحتها الجميلة، وبمجتمعها الطيّب… فكان لهذه النشأة أثرها في صقل موهبة المرحوم يعقوبي. 2- أصالة التكوين الأوّل، لقد سلّمت الأغواط ابنها إلى قسنطينة، مدينة الصلاح والإصلاح، وإلى معهد عبد الحميد بن باديس، حيث فتح عقله على عالم يتميّز بالتنوّع الإقليمي داخل بوتقة الثقافة الإسلامية المتأصلة القائمة على الثوابت الوطنية، كإصلاح السان وتوسعة الجنان، وتعميق معنى الوطنية، من الأوطان، وفهم صحيح للإسلام في ضوء القرآن. لقد كان لهذا المهد الحضاري في التكوين أثره البالغ أيضًا في توجيه مَلَكَة وموهبة الأستاذ محمود يعقوبي، مما أهله للحصول على ثقافة متوازنة الاهتمامات، وصلبة الدعامات. 3- اكتسابه للثقافة الأجنبية، التي نقلها إليه ولم ينتقل –هو- إليها، فطوعها لمقاصده ومقاصد ثقافته، فأنتج بها المترجمات العديدة، التي فتح الله بها مختلف العقول على ثقافة الآخر الفلسفية، انطلاقا من الاستدلال المنطقي منذ المنطق اليوناني الأرسطي إلى المنطق الحديث بجميع مكوناته، وقد أمكن هذا الانفتاح الثقافي من إيجاد التوازن بين الاستدلال القرآني، والاستدلال الفلسفي البرهاني، مما أنتج لنا فكرًا فلسفيًا لا يضيق بالاختلاف، بل ويحقق التكامل بين الصالح من الثقافتين. 4- بصمات جامعة دمشق، التي تمثل إحدى المعالم الثقافية، ذات الأبعاد الفلسفية المختلفة في وطننا العربي بعيدًا عن الانغلاق الفكري، والتّزمت الديني أو المذهبي، وقد شهدت لها –في ذلك- البعثة العلمية التي أسعفت جامعتنا بعد الاستقلال ممثلة في أساتذة الأدب، والقانون، والتاريخ، والفلسفة، وفي مقدمتهم أستاذنا الفقيد بديع الكسم، الذي تعلمنا عليه جميعًا، فكان نعم النموذج للتفلسف، والتخلق. نعتقد أنّ هذه –العيّنات من العوامل- على سبيل المثال قد ساهمت كلّها في إيداع عقل فلسفي صالح هو عقل شخصية المؤبن اليوم، فإلى هذه الشخصية يعود الفضل –بعد الله- في تكوين أجيال من الباحثين في الفلسفة سواء في الثانويات، أو في معاهد الفلسفة، أو في المدرسة العليا للأستاذة، وهم الذين يقيمون له –اليوم- هذه الوقفة التأبينية، عرفانًا بفضله، وتمجيدًا لجهده. وإذا كانت جهوده، عبر عقود طويلة من الزمن لن تفيها حقّها لحظات زمنية، فإنّ العبرة بالمبدأ، وما هذا المبدأ إلا الوفاء وإنّ الوفاء قيمة سامية نبيلة، يجب أن نحمدها لأهلها. فسلام على الأوفياء في كلّ زمان ومكان، ودعاء من الأعماق إلى أخينا العزيز الفقيد الأستاذ الدكتور محمود يعقوبي، داعين له بالخلود في جنة النعيم، وعزاء لأهله وطلابه، في أن يخلفه من يواصل المشوار بعده، في جزائر هي اليوم أحوج ما تكون، إلى العقل المستنير، والفكر الديني الأصيل الوفير والوعي الوطني الرائد الغزير. *أستاذ التعليم العالي بمعهد الفلسفة جامعة الجزائر2- بوزريعة
تقييم:
0
0
مشاركة:
التعليق على الموضوع
لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...
...........................................
=== إضافة تعليق جديد ===
في موقع خبار بلادي نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين خدماتنا. وبالضغط على OK، فإنك توافق على ذلك، ولمزيد من المعلومات، يُرجى الاطلاع على سياسة الخصوصية.