محمد مصطفى حابس / المفكر الموسوعي محمد عمارة أغزر علماء عصره يترجل بعد أن أثرى المكتبة الإنسانية
المفكر الموسوعي محمد عمارة أغزر علماء عصره يترجل بعد أن أثرى المكتبة الإنسانية
المحرر الثلاثاء 15 رجب 1441? 10-3-2020م
محمد مصطفى حابس
ها هو الشيخ الموسوعي المفكر الكبير الدكتور محمد عمارة يرحل بعد أسبوعين تقريبا من مرضه المزمن العابر العاجل، رحل عنا مساء يوم الجمعة الموافق 4 رجب سنة 1441 من الهجرة النبوية الشريفة، حيث توفي المفكر الإسلامي المعروف وعضو هيئة كبار العلماء د. محمد عماره، تاركا وراءه ثروة علمية كبيرة متنوعة، أغنى بها المكتبة العربية الإسلامية، مقدما لنفسه زادا يدر عليه الحسنات والبركات، وبذلك يأفل نجم من نجوم الأصالة من سماء ليس العالم الإسلامي فحسب، بل العالم برمته ..
يموت العظماء فلا يندثر منهم إلا العنصر الترابي
فلا يملك المرء ابتداء مع رحيل هذه القامة الفكرية، إلا أن يعزي نفسه والأمة الإسلامية والإنسانية قاطبة في فقيدها الكبير الذي سطر لأجيال الحركة الإسلامية وصحواتها من بعده قاموسا خصبا ثريا، حافلا بالمجاهدات والمغالبات والمقاومات والعطاءات والتضحيات، وبمثل ذلك يموت العظماء فلا تموت آثارهم من بعدهم مصداقا لقوله سبحانه:{ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}[يس: 12].
فعلا برحيل الدكتور عمارة تكون المكتبة الإسلامية حقا قد فقدت رفوفا كبيرة من كتبها، من جهتي معلوم أنه لم تشرفني أقدار الله سبحانه بلقائه إلا أياما معدودات في نهاية ثمانينات القرن الماضي أثناء ملتقيات الفكر الإسلامي، وآخرها لقاء في جامعة قسنطينة في ندوة المنهجية أو إسلامية المعرفة التي نظمها المعهد العالمي للفكر الإسلامي بالاشتراك مع جامعة قسنطينة..
وأذكر هذه الندوة تحديدا لأن العلامة محمد عمارة خصص لي وللفريق الإعلامي معي من العاصمة حصة الأسد، حيث تفرغ لنا كل صباح قبل انعقاد أشغال الندوة ليسجل معنا سلسلة دروس غاية في الأهمية، والملاحظ أني أعجبت ليس بأسلوبه المقنع فقط بل، بل بسيولة وغزارة أفكاره لم أكتشفها عند جل علماء عصره بما فيهم الشيخ الغزالي والشيخ الترابي والدكتور جمال الدين عطية والدكتور محمد أمزيان .. فقد أمتعنا فعلا بتلك التسجيلات، وقبل أن يغادر رجا زميلي المصور أن يرسل له نسخة لمصر ليفيد بها غيرنا في دول المشرق.
صحيح قد يقول قائل أن الدكتور عمارة متميز ونابغة، وأنه لكل رجل تخصصه ولكل عالم فنه ولكل منهم محطة ومرتع، ولكل عصر رجاله، ولكل عصر أفعاله، والعصر بالتالي ليس هو الزمن إنه الرجال، وإنه الأفعال، فالعصر -كما يقول أحد مفكرينا – عبارة عن مضغة في فم، فكه الأعلى من الرجال، وفكه الأسفل من الأفعال!
أو كما علق عن وفاته أستاذنا الشيخ الطيب برغوث الذي تعرف عليه عن قرب بقوله: “بالرغم من تنقل الدكتور عمارة عبر محطات وساحات فكرية عدة، إلا أن مساره الرسالي العام ظل عميق الصلة بدينه وبالقضايا الجوهرية لأمته، وقد ظهر ذلك جليا في العقود الخمسة الأخيرة من حياته خاصة، حيث انحاز بشكل حاسم وواضح وعميق إلى جوهر الهوية الحضارية للأمة، وكرس كل وقته وجهده وطاقته وملكاته، لبناء الوعي بعالمية وإنسانية وكونية وعظمة الرسالة الإسلامية في الحياة، وبحاجة الأمة والإنسانية إليها، وكانت له مواقف وصولات وجولات مشهودة محمودة، ستظل الأجيال ترتوي منها إلى ما شاء الله تعالى.
وقد تميز على كثير من العلماء والمفكرين بهذه الموسوعية المتوازنة والمتكاملة، التي أنقذته من الازدواجية الفكرية والسلوكية المتنافرة، فهو عقلاني عميق، ولكنه ليس علمانيا حدِّيا متكلسا. كما أنه أصولي أو أصالي عميق، ولكنه ليس حرفيا منعزلا عن عصره، بل يعيش في عمق عصره بذاتيته وهويته الإسلامية المستنيرة الفاعلة في حياته.
لقد كان شعلة متقدة، واستفدنا منه نحن الجزائريين مباشرة، من خلال مشاركته المستمرة في ملتقيات الفكر الإسلامي العتيدة، التي كانت تعقد سنويا في الجزائر لمدة أسبوع تقريبا، ويحضرها فطاحل العلماء والمفكرين حتى من غير المسلمين، من مختلف أنحاء العالم.
وكان الدكتور عمارة فارسا من فرسانها الكبار، متميزا بطرحه وحرارته وحيويته ورساليته، وكنا ننجذب إليه ونستمتع بأطروحاته ونستفيد منها كثيرا، خاصة فيما يتعلق برد الشبهات وإبراز قوة وعظمة الإسلام، وقوة وتميز الحضارة الإسلامية”..
مع هذه الخسارة الفادحة بفقدان الدكتور عمارة، عزاؤنا فيما قاله شيخنا العلامة البشير الإبراهيمي – رحمه الله – ، حيث كتب يقول في ذكرى وفاة الزعيم الروحي لحرب التحرير الجزائرية، الشيخ الرئيس عبد الحميد بن باديس- رحمه الله-:” يموت العظماء فلا يندثر منهم إلا العنصر الترابي الذي يرجع إلى أصله، و تبقى معانيهم الحية في الأرض، قوة تحرك، ورابطة تجمع، ونورا يهدي، وعطرا ينعش، وهذا هو معنى العظمة، وهذا هو معنى كون العظمة خلودا.[عيون البصائر، ص: 673 ، دار الغرب الإسلامي، بيروت].
لا لشيء، إلا لأن في موت العظماء – أمثال الدكتور عمارة – حياة أممهم، فإن كانت في الغربة زادت جلالا، فإن كانت نتيجة للظلم زادت جمالا، فإن كانت في سبيل الوطن كانت جلالا وجمالا، فإن صحبها سلب العز والملك حلية وكمالا. عزاء للوطن الإسلامي المفجوع فيك يا علامة العرب والغرب، وسلوى للقلوب المكلومة بموتك! وجزاء تلقاه في هذه الدنيا طيب ذكر، وعند ربنا ثمين ذخر.
في انتظار ذلك نقول لفقيدنا الغالي، نم هادئا، قرير العين .. بل حسبك قول الشاعر الجزائري الفحل محمد العيد آل خليفة، الذي أنشد يقول يوم رحيل إمامنا، العلامة عبد الحميد بن باديس:
نم هـادئا فالشعب بعـدك راشــــد *** يختـط نهجـك في الهـدى ويسير
لا تخش ضيعة ما تركت لنا سـدى *** فالـوارثـون لمــا تركـــت كثير
وسلام عليك في الشهداء والصديقين وحسن أولئك رفيقا.. وسلام عليك في الأولين والآخرين، وسلام عليك في المؤمنين العاملين، وسلام عليك في الدعاة الربانيين، وسلام عليك إلى يوم الدين.. هنيئا لك ذخرك عند الله مما قدمت يداك من باقيات صالحات، وعزاء لك فيمن كنت تعلمهم وتواسيهم وإلى لقاء في جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين .. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، و”إنا لله وإنا إليه راجعون”. وصدق محيي الموتى القائل:{ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[النحل:32].
مع خالص عزائي ومودتي لطلابه وعائلته الكبيرة..