قد يكون الحجر المنزلي مرا، وقد يكون السجن مدمرا، وقد تكون مقيدا في مكان ما بإرادتك أو ضدها، والحجر الصحي المنزلي يفعله الأحرار بإرادتهم ، ويأباه العبيد إلا إذا فرض عليهم.
وكم تعجبني أبيات شاعر الدعوة عبد الوهاب عزام:
قيد الحر نفسه برضاه
وأبي في الحياه قيد سواه
وترى العبد راضيا كل قيد
غير تقييد نفسه عن هواه
من ديوان المثاني
ومهما كنت معزولا فلا تفقد الأمل ولا تترك الدعاء ،فالأمل بالله ليس عبثا، والدعاء لن يذهب سدى، وما بكت عين إلا ولها رب يخبئ لها الأجمل، والاستسلام ليس من شيم الأحرار.
ولو تأملت الحياة لوجدت أن كل ما ينزل بك نعمة، فنعم السراء للتذكير، ونعم الضراء للتطهير، وواجبك أن تكون في السراء عبدا شكورا، وفي الضراء حرا صبورا.
وليست الخلوة أو العزلة أو الوحدة أو السجن الحجر الصحي إلا حياة في حيز يضيق إذا رأيته ضيقا، ويتسع ليصبح كونا فسيحا إذا أردته أن يكون.
ومن جميل قول عمرو بن الأهتَم المِنْقَري :
لَعَمْرُكَ ما ضاقَتْ بِلاَدٌ بأَهْلِهَا
ولكنَّ أَخلاقَ الرِّجالِ تَضيقُ .
والعُزلة طريقة للتفكير، ومجال رحب فسيح للإبداع، والعديد من الكتاب والمفكرين والمبدعين قدموا روائعهم وهم فترة الخلوة ضمن جدران ضيقة، وخلف نوافذ لا يمكن فتحها: حجر صحيا، أو قهرا بالمرض، أو تحت سطوة السجان.
كان لسان الدين ابن الخطيب مبتلى بداء الأرق لا ينام ليلا إلا قليلا، لقب ذو العمرين (لأن الناس ينامون وهو ساهر)
كان شاعرا وكاتبا وفقيها مالكيا ومؤرخا وفيلسوفا وطبيبا وسياسيا من الأندلس نـُقِشت أشعاره على حوائط قصر الحمراء بغرناطة، صنف جل تآليفه البديعة ليلا ،وهو القائل:
جَاءَتْ مُعَذِّبَتِي فِي غَيْهَبِ الغَسَقِ
كَأنَّهَا الكَوْكَبُ الدُرِيُّ فِي الأُفُقِ
فَقُلْتُ نَوَّرْتِنِي يَا خَيْرَ زَائِرَةٍ
أمَا خَشِيتِ مِنَ الحُرَّاسِ فِي الطُّرُقِ
فَجَاوَبَتْنِي وَ دَمْعُ العَيْنِ يَسْبِقُهَا
مَنْ يَرْكَبِ البَحْرَ لا يَخْشَى مِنَ الغَرَقِ
وألف الفقيه الحنفي السرخسي كتاب المبسوط في سجنه محبوسا في الجب بسبب كلمة نصح بها، أملاه من خاطره من غير مطالعة على أصحابه وهم في أعلى الجب ،وذكر طرفا من معاناته وغربته في السجن فقال بعد أن ختم إملاء كتاب الهبة :
بِإِمْلَاءِ الْمُلْتَمِسِ لِرَفْعِ الْبَاطِلِ الْمَوْضُوعِ، الْمَنْفِيّ لِأَجْلِهِ الْمَحْصُورِ الْمَمْنُوعِ عَنْ الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ وَالْكِتَاب الْمَجْمُوع.
وغالب كتب ومؤلفات شيخ الإسلام بن تيمية أملاها من حفظه وكثير منها صنفه في السجن ،وجل تفسير (في ظلال القرآن) للشهيد سيد قطب كتبه وهو في السجن .
واختصر الشيخ الألباني صحيح مسلم في السجن وليس معه إلا الصحيح وقلم رصاص وممحاة عمل فيه ليل نهار دون كلل ولا ملل.
واقتيد جواهر لال نهروا إلى السجن بسبب نشاطه السياسي، وهناك كتب «اكتشاف الهند»، الذي نقرأ فيه عن تاريخ الهند وثقافتها وفلسفتها، وكتب هتلر «كفاحي» وهو في السجن ، وكتب نيلسون منديلا أغلب فصول كتابه: «الطريق إلى الحرية» في السجن، وهو عمل فريد في السياسة والمعاناة بالسجن.
تقييم:
0
0
مشاركة:
التعليق على الموضوع
لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...
...........................................
=== إضافة تعليق جديد ===
في موقع خبار بلادي نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين خدماتنا. وبالضغط على OK، فإنك توافق على ذلك، ولمزيد من المعلومات، يُرجى الاطلاع على سياسة الخصوصية.