قراءة في أعمال التشكيلي (محمد العروصي).. سمفونية لونية عاشقة وتجريد لا متناهي
" وظيفة الفنان ليس أن يرسم ما يراه ولكن أن يعبر عن الدهشة التي يسببها ما يراه وينجح في التعبير عنها بقوة " الفنان الفرنسي " ما تيس " .
لا يمكن لنا قراءة أي لوحة تشكيلية إلا من خلال معجم الفنان الذي أخرجها لحيز الوجود، حتى يكون القول بمساحة الموضوع وعمقه، واذا جاز لنا هذا القول عندها سنعرف كيف يتبوأ الفنان التشكيلي محمد العروصي مكانة بارزة وبجدارة يستحقها في الوسط التشكيلي المغربي، حيث نلاحظ عند تشكيل لوحاته الفنية ووضع اللمسات الاخيرة عليها، أن منتوجه قبل النضج والانتهاء منطوٍ على تشفيرات لايعرف كنهها سوى المعني بتخليقها ( محمد العروصي ) وذلك يعني أن ترويضه للمساحات التي يولدها في اللوحة، تنقل بانوراما جمالية ذات شعرية متميزة كتلك الشعرية التي تنجزها القصيدة التي تدعو للسلام والتسامح والتعايش الحضاري بين ابناء هذا الكون ! فيما الألوان فهي رشيقة متناغمة تهب سيرها الأبدي و للخطوط لديه خطابها الجمالي المنزو في كل لوحة ملامسا سحر الأمكنة، خالقا بذلك حوارا متسلسلا بين معجم اللوحة الأولى واللوحة الثانية او الثالثة ... الخ، و همسات ابداعية خلاقة مما أنتج لنا السيرورة التشكيلية المكانية الجمالية، كما نرى الفنان المبدع محمد العروصي مستخدما في لوحاته نسخ التجريدي الصافي هو عبارة عن خطوط متوازنة في التركيب والتأويل المعاكس اي والمخالف لمنطوق اللوحة المتناقضة حتى تضيف البهجة والبعد البصري ومضاداتها،الألوان مع بعضها والضوء والظل ، واستعمال المساحات الفارغة اللذين تمليء اللوحة بهما.
فهو أحد التشكليين المغاربة الذي عشق اللون و الريشة، و حضن المراسم، ليتمكن من دراسة أكاديمية زادت من مؤهلاته و عشقه لتجليات العمل الفني النابع من نياط القلب، المتشبع بالروح المتناغمة، فهو من المغامرين القلائل الباحثين عن قيمة التجريد اللوني المطلق في فضاء الحداثة اللونية المعبرة عن روح المعنى، فاللون وحده هو نقطة الارتكاز الأساسية في فنه، إذ يعتمد في تشكيله اللوني على مدى أو مركز معين في اللوحة، يكثف فيه إيقاعاته اللونية بحيث تتداخل الطبقات اللونية فيما بينها ضمن مركزية الفكرة، فهو يحول كل ما يجول بخاطره إلى فيض من الألوان المتداخلة والمتجاورة بقصدية ليست عفوية، بل تختزن نكهة من مزاج المكون المغربي الأصيل، مؤسسا بذلك مدرسة لونية خاصة به، تداخل فيها التوازن التجريدي بين العلاقة الشكلية والتعبيرية الباطنية، مشكلا سمفونية تحاول ان تجمع أزمنه متفاوته في لحظة واحدة من خلال هارمونية بصرية تعيد رسم معالم الواقع وفق رؤية فلسفية ، تحمل الجوهر لتحيله الى ما ورائية قصدية تتناغم بين الصفاء الروحي والتأمل العقلي.
إننا بتفحصنا لأعمال محمد العروصي نجد ذلك الترابط الموضوعي بين الشعر واللون والفلسفة والموسيقى. فقد لازم صورا حية وسهلة الانقياد لفهمنا، إن اشتغاله الفني يبتدئ من اهتمام هذا الفنان بفنون عصر النهضة وطبّعت صوره المستلة مواضيعها من طبيعة المشاهد التي نألفها في تجاربنا البصرية المعتادة. غير أن الفارق هو في التوليف الصوري وفي إنشاء الموضوعات المركبة، وفي اقتراح الصيغ المثلى في تغيير الاحتمالات الشكلانية للأشياء المرئية، بتغيير احتمالاتها المكانية على نحو مثير بحيث أنها تخلق شعورا بالارتحال إلى زمن لا يشبه زماننا. إنه عالم الأحلام، و منه نقول أنه يمتلك المقدرة على التلوين ويهتم بالتفصيلات الدقيقة جدا، وغالبا ما يأتي اهتمامه هذا ليؤكد خبرة معرفية وفنية وحسية استطاع الفنان الكبير أن يكتسبها عبر تجربة امتدت سنوات عديدة جعلته يفاجأ المتلقي من اللحظة الأولى لفعل المشاهدة، بتحقيق حالة من الإبهار و التساؤلات، تجعله ينشد ببصره نحو اللوحة متفحصا عالمها المفترض، دون أن يجد لها إجابة واحدة بل عدة إجابات متداخلة فيما بينها و هو ما يجعلنا نعود لنقطة الانطلاقة أن للفنان محمد العروصي معجمه الخاص.