من الثوابت الإسلامية أن عبادة الله عز وجل هي الغاية المطلقة والغاية الأولى للوجود البشري "وما خلقتُ الجن والإنس إلا ليعبدون" (الذاريات: 65) وأن هذا يشمل كل تاريخ البشرية "ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقّت عليه الضلالة" (النحل: 63).
ومفهوم العبادة في الإسلام والقرآن والسنة يقوم على ركني الحب والتسليم أو الذل لله عز وجل، ومِن المجْمع عليه بين العقلاء أن مصداقية الحب تتضح بالطاعة، وقد جلّى لنا ذلك الإمام الشافعي في أبيات رقيقة قال فيها:
تعصي الإله وأنت تُظهر حبّه هذا محال في القياس بديع
لو كان حبك صادقا لأطعتَه إن المحب لمن يحب مطيع
وفي بيان عِظم محبة المؤمنين لربهم يقول الله عز وجل في كتابه: "ومِن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله" (البقرة: 561)، أما بخصوص الذل لله عز وجل والانقياد والتسليم له سبحانه وتعالى فقد جاء في آيات متعددة كقوله جل في علاه: "ومَن أحسن دينًا ممن أسلم وجهه لله" (النساء: 521) وقوله: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيتَ ويسلموا تسليما" (النساء: 56).
وبسبب كمال الحب والذل والتسليم لله عز وجل حاز إبراهيم عليه السلام مرتبة الخلة وأصبح لقبه "خليل الرحمن" وذلك حين سلّم وخضع بحبٍّ لامتحان الله عز وجل بذبح بكره إسماعيل عليه السلام "قال يا بُنيّ إني أرى في المنام أنّي أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين* فلما أسلما وتلّه للجبين" (الصافات: 201-301)، ومن ذلك الوقت فَرض الله عز وجل شعيرة الأضحية تعبيرا عن الحب والذل والاستسلام لأمره سبحانه وتعالى "وفديناه بذبح عظيم" (الصافات: 701)، والتي يقوم بها المسلمون باسم الأضحية في عيد الأضحى ويقوم بها الحجيج في مكة باسم الهدي.
ولو تأملنا حال الحجيج لرأينا بكل وضوح تطبيقهم لركني العبادة: الحب والذل أو الاستسلام، فحب المسلمين وشوقهم لأداء مناسك الحج حب وشوق عظيم يجعلهم يخططون لذلك سنوات طويلة فيوفرون المال ويدخرونه لهذه الغاية العظيمة برغم مشقة السفر وبعده على كثيرين منهم بخلاف الحر الشديد وكون مكة بلدة ليست ذات طبيعة أخاذة وليست وجهة سياحية، ولكن الحب لله عز وجل والحب لطاعته وزيارة بيته وتحقيق أمره "ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا" (آل عمران: 79) هو الدافع الذي يدفع الملايين سنويا للحج.
وبعد الحب ودافعيته يأتي القبول والتسليم والانقياد والذل لرب العالمين من الحجاج، فيتخلون عن ملابسهم المعتادة وعن الطيب والعطور وفي مواقيت/ أماكن محددة، فيستجيب الملايين حبا ورغبة لأن هذا هو جوهر العبودية (حب وذل رغبة وطاعة).
ومن ثم تبدأ المناسك بالطواف حول الكعبة سبعة أشواط والسعي بين الصفا والمروة سبعة أشواط أيضا، حيث يتساوى الجميع في التنفيذ في استسلام ورغبة تامة تحقق عبودية الناس لرب الناس، الذي يأمر فيُطاع، علم الناس حكمة فعلهم أم لم يعلموا.
وبعدها ينتقل الملايين للمبيت بمنى في العراء ومن ثم الذهاب للوقوف بجبل عرفات وبعدها يفيضون إلى مزدلفة وبعدها يكون طواف الإفاضة وحلق الشعر ورمي الجمار وذبح الهَدي، في مشاهد تذكر الحجيج بمشاهد الدار الآخرة، ويفعل الحجاج ذلك بكل تسليم وطاعة وانقياد تعبيرا عن ذلهم وحبهم لربهم بطاعة أوامره.
وبذلك فإن الحج يكون بمثابة تجربة معملية وعملية لحقيقة الإيمان والإسلام والعبادة تقوم على مزج الحب لله عز وجل بطاعة أوامره والتسليم لأحكامه وتطبيق شعائره كما علّمنا وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون من مقاصد الحج تعويد النفس على التسليم لأمر الله عز وجل في كل شؤون الحياة.
فكما أن الحجيج -رجالا ونساء- لهم لباس محدد المواصفات استسلموا له، فكذلك بعد الحج هناك لباس محدد المواصفات للرجال والنساء يلزمهم الاستسلام له، فلا يجوز للرجال والنساء إظهار عوراتهم، بل ارتداء اللباس الساتر، كل بحسبه.
وكما أن الحجيج تخلوا عن مشاغل الحياة من أجل الحج فعليهم كذلك الحرص بعد الحج على تأدية واجباتهم الدينية وخاصة الصلاة وعدم الانشغال عنها بالدنيا.
وكما أن الحجاج سكنوا العراء واستشعروا اليوم الآخر فعليهم استصحاب هذا الحال دوما معهم، لتنصلح أحوالهم ويكون ذلك بالاستسلام والتسليم مع المحبة دوما لأمر الله عز وجل، وكما حجوا من مال كسبوه بالحلال فعليهم أيضا البعد عن المال الحرام في كل شؤونهم، وعليهم البعد عن الرفث والفسق كما تجنبوه في حجهم، وهكذا.
القيمة الحقيقية للحج هي أن يستصحب الحجيج والمسلمون ركني العبادة (الحب والذل والرغبة والطاعة لله عز وجل) في كل شؤون حياتهم، وكما تخلو عن دنياهم في الحج وانضبطت سلوكياتهم بالتسليم لله رب العالمين فلتتساوى أعمالهم وأقوالهم في الحج وبعد الحج بمعيار التسليم لشريعة الرحمن.
ومن مكن الحب والذل والتسليم لله عز وجل في قلبه وبدنه من حجاج بيت الله أو من بقية المسلمين واستفاد من موسم العشر من ذي الحجة فهذا هو الفائز الحقيقي والذي يستحق الجائزة والتهنئة، ومن رسخ في قلبه فهم ركني العبادة الحب لله والذل والطاعة لله ستسقط عند أقدامه كل الشبهات التي يقصف بها المؤمنون والمؤمنات صبح مساء، وستسقط عند قدميه أمواج الشهوات المتلاطمة في هذا العصر والأوان، ولهؤلاء شُرع عيد الأضحى في الحقيقة وهم من يستحقون الفرح والسعادة، جعلنا الله منهم أجمعين.
تقييم:
0
0
مشاركة:
التعليق على الموضوع
لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...
...........................................
=== إضافة تعليق جديد ===
في موقع خبار بلادي نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين خدماتنا. وبالضغط على OK، فإنك توافق على ذلك، ولمزيد من المعلومات، يُرجى الاطلاع على سياسة الخصوصية.