الاستاذ علي هزايمه- قراقوش وحقيقته !
قراقوش وحقيقته !
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
نسمع كثيرا برجل يُدعى قراقوش و تُضرب به الأمثال في القسوة و الظلم
و يٌقال في المثل: " حكم قراقوش" فيا ترى من هو قراقوش هذا ؟
و ما حقيقته؟
و هل ما يُقال عنه حقيقة أم هو من نسج الخيال؟!
و لمعرفة الحقيقة لنا وقفة مع كلام المؤرخ محمد عبدالله عنان-رحمه الله- في كتابه " تراجم إسلامية" حيث قال:
- ( كثيرا ما تُغير حقائق التاريخ أو تشوه، و يغمرها معترك من الخرافة فتغدو على كر الأجيال و قد غاضت معالمها الحقيقة، و رسخت صورها التي ينسجها الخيال، و أضحت تحجب ما عداها من الصور التي تعتمد على الحقائق التاريخية. و هذا القول ينطبق على بهاء الدين قراقوش، وزير السلطان صلاح الدين.
فإن الرواية التاريخية تقدمه إلينا وزيرا نابها و إداريا حازما، قام بمشروعات إنشائية عظيمة، هذا بينما تقدمه لنا الأسطورة أو بعبارة أخرى يقدمه إلينا القصص الشعبي طاغية غشوما، و حاكما ظالما، سفاكا للدماء متجاهلا كل حق و كل عدالة و كل رفق، حتى أنه غدا مضرب الأمثال لكل عسف و جور، يتمثل ذلك في العبارة الشعبية المأثورة" حكم قراقوش ".
فما هو وجه الحقيقة في ذلك، و ما هي حقيقة شخصية هذا الرجل الذي تدمغه الأساطير الشعبية بهذه القسوة؟و أخيرا ما هو مبعث هذه الأساطير و الظروف التي ترعرعت فيها؟ هذا ما سنحاول أن نعالجه في هذا الفصل.
تحدثنا الرواية التاريخية المعاصرة و القريبة من العصر عن بهاء الدين قراقوش، و تقدمه إلينا في صورة طيبة، تختلف كل الاختلاف عما تقدمه إلينا الأسطورة.
و قد عنى ابن خلكان بترجمته بين أعيان وفياته.
و هو أبو سعيد قراقوش بن عبد الله الأسدي الملقب ببهاء الدين، و قراقوش معناها بالتركية" النسر الأسود: .
و كان خصيا أبيض من خدم أسد الدين شيركوه عم صلاح الدين، فلما تولى صلاح الدين الوزارة للخليفة الفاطمي العاضد بالله، جعله متولي القصر الفاطمي حرصا على ما فيه.
و لما استقل صلاح الدين بشؤون مصر عينه كبيرا لشؤون القصر و الخاص، فأبدى همة و غيرة وكفاية في كل ما أسند إليه، و تقدم في الحظوة حتى غدا رجل صلاح الدين الأول و ساعده الأيمن، يوليه كامل ثقته و يندبه لمهام الأمور.
و لما غاب صلاح الدين عن مصر مدة، عين قراقوش نائبا عنه و فوض أمورها إليه، فوطد الأمور و ضبط النظام و الأمن .
و قد قام قراقوش خلال خدمته لصلاح الدين بطائفة من أعظم الأعمال الانشائية التي خلدت اسمه، و التي مازالت آثارها ماثلة بيننا،، فهو الذي أنشأ قلعة الجبل العظيمة على سفح المقطم ، و كان صلاح الدين قد رغب في إنشاء معقل حصين يعتصم به، و يكون فيه آمنا على نفسه من كيد خصومه من شيعة الفاطميين وغيرهم، و يجعله مستقرا له و قاعدة لحكمه، فتولى قراقوش تحقيق رغبته و قام على إنشاء القلعة و ذلك في سنة 569هـ و إنشاء بئرها العجيبة لتمدها بالماء.
و كان صلاح الدين قد رأى في نفس الوقت أن يبني سورا عظيما يضم القلعة و مدينتي مصر و القاهرة، بعد أن اتسعت أحياء القاهرة التي خارج السور الفاطمي القديم، فلم بر أيضًا خيرًا من قراقوش لتحقيق رغبته، و أبدى قراقوش في تنفيذ هذا المشروع همة فائقة، وأزال عددًا كبيرًا من القبور و المساجد التي تعترض خطط السور، و هدم كثيرا من الأهرام الصغيرة التي كانت قائمة بالجيزة تجاه مدينة مصر،و استعملت أحجارها الضخمة في بناء السور و القلعة.
و ابتنى قراقوش أيضا قناطر الجيزة العظيمة على النيل على مقربة من الأهرامات، و ابتنى عددا آخر من المنشآت. و لما استولى صلاح الدين على ثغر عكا من يد الفرنج، ندب قراقوش لإصلاحه و ترميم أسواره و قلاعه، ثم عاد الفرنج فاستولوا عليه، ووقع قراقوش أسيرا في أيديهم، و لم يُفرج عنه إلا لقاء فدية عظيمة.
و لما نجا قراقوش من الأسر ، و مَثُل أمام السلطان سُرَّ صلاح الدين بخلاصه أيما سرور، و أعلى مرتبته و غمره بصلاته، و لبث قراقوش على حظوته حتى توفي صلاح الدين في سنة 589هـ.
و عاش قراقوش بعد ذلك عدة أعوام أُخر رفيع المكانة، وافر الهيبة، نافذ الكلمة، حتى توفي في سنة 597هـ.
و نستطيع على ضوء هذه الخلاصة الموجزة لسيرة قراقوش أن نقول: إنه كان شخصية بارزة، و إنه قام بأعمال عظيمة، و هذا هو نفس ما تردده التواريخ المعاصرة و القريبة من عصره ، و يكفي أن نذكر في هذا المقام ما رواه معاصره العماد الأصفهاني مما جاء في وصفه على لسان صلاح الدين حينما تقرر ندبه لإصلاح ثغر عكا و هو : " الراجح الرأي، الناجح السعي، الكافي الكافل بتذليل الجوامح و تعديل الجوانح، و هو الثبت الذي لا يتزلزل، و الطود الذي لا يتجلجل - بهاء الدين قراقوش- الذي يكفل جأشه بما لا تكفل به الجيوش".
و قال عنه ابن خلكان : وقد عاش قريبا من عصره " و كان رجلا مسعودا
وصاحب همة عالية" ) - كتاب ابطال العز والفخر في الاسلام-علي هزايمه