قراءة في كتاب "نحن و التراث" لمحمد عابد الجابري نحو فهم للرؤية الخلدونية و نقد التراث
بقلم ذ : محمد سعيد
من يتأمل الدلالة المعجمية لكلمة "التراث"، فسيجدها بطبيعة الحال مشتقة من فعل ورث، و مرتبطة دلالياً بالإرث و الميراث و التركة و الحسب و ما يتركه الرجل الميت، و يخلفه الأولاد و البنات، و في هذا الإطار يقول إبن منظور في معجمه "لسان العرب" :"ورث: الوارث، فكل وارث له موروث و كل موروث له وارث"، لذلك فالتراث إرث لنا، من هنا نستنتج أن كلمة التراث من مشتقات ورث، و أنها لم ترد بالمفهوم الثقافي و الحضاري الذي إلتصقت به دلالياً كما في عصرنا الحديث و المعاصر فقط، بل وردت الكلمة بمفهومين: أحداهما مادي يتعلق بالتركة المالية و ما له علاقة بالأصول و المنقولات، و الثاني معنوي يرتبط بالحسب و النسب، بيد أننا نفهم أن علماءنا المحدثين وضفوا التراث بمفهوم أخر،و هو أن التراث كل ما خلفه الأجداد للأحفاد على صعيد الأدب و المعارف و الفنون و العلوم، أو ما هو بمثابة الذاكرة الثقافية و الحضارية و الروحية و الدينية التي تبقى للأبناء و الأحفاد من أجدادهم. إن معظم المرجعيات التي يستنذ إليها الباحثون المعاصرون في قراءة هذا التراث كانت موجهة بكيفية أو بأخرى، بالظروف السياسية و الثقافية التي زامنتها، و إذا كان الباحث المعاصر نفسه ذا ميول سياسية يزيد تكريسها، فإن الحقيقة ستنذثر و تضيع دونما شك بين معارج سياسة الماضي و متاهات سياسة الحاضر. فالعروي له قراءة تاريخية للتراث، و محمد مفتاح له قراءة سيميائية كما عند عبد الفتاح كليطو،و القراءة التفكيكية للتراث كما عند عبد الله الغدامي و عبد الكبير الخطيبي،و القراءة التأويلية التراثية كما عند نصر حامد أبو زيد و مصطفى ناصف، و القراءة البنيوية التكوينية كما عند محمد عابد الجابري و التي نراها هنا بمشروعه الفكري "نحن و التراث". فما معنى قراءتنا في كتاب "نحن و التراث" (1) للمفكر المغربي محمد عابد الجابري؟ لقد إعتمد الجابري في قراءته للتراث على البنيوية التكوينية كمنهج لدراسته، عكس عبد الله العروي الذي كانت قراءته ماركسية للتراث، و محمد أركون الذي وضع التراث في السياق العلماني لتحليله و تقديمه بصورة متجددة، و واظعا قطيعة مع الماضي، فالمفكر المغربي محمد عابد الجابري يصادم التراث مباشرة، عكس باقي المفكرين و الباحثين فيه، إذ لا يرى التغيير في ترك التراث، فدائما يعود بنا المفكر المغربي محمد عابد الجابري لسقيفة بني ساعدة في قراءته للتراث الإسلامي و محاولة وضعه في سياقه التاريخي و الموضوعي، و يقدم أيضاً نظرية لظهور أهل الكلام و بروزهم بعد الحقبة المحمدية و الخلفاء من بعد ذلك. يعتمد محمد عابد الجابري على الفقه في فهمه للتراث - ففي ماذا كان يفكر محمد عابد الجابري بالظبط (و بذون إلهاء الحواس بالتفاصيل)؟ قد نلتمس الجواب عن هذا السؤال في أقدم نصوص الجابري الكبيرة المعروفة، و هي رسالة الدكتوراه التي نشرها سنة (1971) تحت عنوان "العصبية و الدولة: معالم نظرية خلدونية في التاريخ العربي الإسلامي"، كان الجابري واعيا أن موضوع "إبن خلدون" و "مقدمته" كان قد صار مستهلكين، و لكن كان واعيا أيضاً بأن هناك أمرا ما كان لا زال من الممكن بل من الضروري الإستفاذة منه عندما نقرأ إبن خلدون، لقد كان إبن خلدون بالنسبة للجابري مؤرخا و فيلسوف تاريخ إكتشف علما جديدا إسمه "علم العمران البشري" حاول أن يفهم به دورة الحياة الطبيعية للحضارة البشرية، رغم أن تركيز إبن خلدون كان مقتصرا على بلدان شمال إفريقيا وحدها، و إستنتج الجابري من ذلك أن قراءة إبن خلدون قراءة معاصرة قد تعطينا "معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي" و هذا هو العنوان الفرعي لأطروحة الجابري (ص 385 - 386). لقد كان الجابري يحلم ببناء نظرية أصيلة في التاريخ الإسلامي يقرأ بها واقع العالم الإسلامي المعاصر، لذلك فقد كان أخر سؤال طرحه على قارئه و على نفسه أيضاً،هو - ألا نجد في تحليلات إبن خلدون ما يلقي بعض الأضواء على جوانب من تاريخنا الحديث و واقعنا الراهن؟ (ص 431)، بغض النظر عن مصداقية الأهداف العلمية للجابري، فإن هناك مشكلة معرفية إعترضت "تذوق" الجابري للأسلوب الخلدوني في التفسير، جعلته يلقي بعض الشك النقدي حول فهم إبن خلدون لممارسة العلم بمعناه الحديث، و قد عبر الجابري نفسه عن هذا الشك بالطريقة التالية: لعله من الواضح الأن أن إبن خلدون لا يهدف إلى دراسة الظواهر الإجتماعية بغية التعرف على القوانين التي تتحكم فيها، كما يقول بذلك معظم الباحثين، بل إنه يهدف إلى بيان ما يحدث في العمران بمقتضى طبعه، و فرق شاسع بين فكرة القانون كما نفهمها اليوم، و فكرة الطبع كما كان يفهمها القدماء، إن فكرة القانون باعتبارها علاقة ضرورية بين حادثتين، أو مجموعة من الحوادث، لم تكن قد تبلورت بعد و لم تكن العلاقات تستأتَر بإهتمام العلماء، و إنما كانت أنظارهم منصرفة إلى خصائص الأشياء، و الخصائص الثابتة الملازمة لها دوما،و التي تشكل "طبيعتها" (ص 158). موضوع الجابري إذن و همه الأساسي هو: هل هناك منطق ما يتحكم في التاريخ الإسلامي؟ قد يساعدنا إبن خلدون في فهم هذا المنطق! و لكن ينبغي أن نكون حذرين من الخلفيات الإبستمولوجية للتناول الخلدوني! لا عجب أن الكتابين المهمين اللذين نشرهما الجابري بعد رسالة الدكتوراه (غير كتاب "أضواء على مشكلة التعليم بالمغرب" الذي نشره سنة 1973 بحكم ممارسته التعليم) هما "نحن و التراث: قراأت معاصرة في تراثنا الفلسفي" (1980) و "المنهاج التجريبي و تطور الفكر العلمي" (1982)، الجامع بين الكتابين هو أنهما يتضمنان محاولة للإجابة عن سؤال العقلانية، يذافع الأول عن عقلانية الغرب الإسلامي (شمال إفريقيا و الأندلس) و يحاول الثاني أن يبين من خلال النقد الإبستمولوجي ماذا تعني العقلانية العلمية أصلاً، الكتابان المواليان سيذهبان أبعد من ذلك لمحاولة البحث عن الكيفية التي تشكل بها العقل الإسلامي و أخذ شكله النهائي في عصر التدوين، حتى يتمكن المنخرط في هذا العقل أن ينتظم في تراثه "البرهاني" دون أن يُشد إلى العناصر غير العقلانية في التراث (العقل البياني و العرفاني)، أقصد هنا كتابي "تكوين العقل العربي" (نقد العقل العربي 1982) و "بنية العقل العربي" (نقد العقل العربي 1986). الكتابان الأساسيان المواليان للجابري هما محاولتان لإضفاء طابع الشمولية على مشروعه بعد أن انتَقد لكونه يختزل كل مظاهر الأزمة في العقل فقط، لذلك فقد رد الجابري بأن حلل "العقل السياسي" (العقل السياسي العربي 1990) و "العقل الأخلاقي" (العقل الأخلاقي العربي) ليضع النقط عى الحروف، و ليوضح أن نقده ليس إختزاليا بل هو واع بضرورة نقد مستويات في القول مختلفة لفهم "منطق الممارسة" في العالم الإسلامي بشكل شامل و صريح. كيف حدد محمد عابد الجابري موقفه من التراث؟ في ندوة "إبن خلدون و الفكر المعاصر" بتونس (1 ماي 1980)، أبرز محمد عابد الجابري وجوها عديدة في التفكير العربي الإسلامي، إمتازت المحاضرة التي ألقاها تحت عنوان "ما تبقى من الخلدونية" بحماس شديد، و بتأثر بابن خلدون تأثرا قلما لاحظناه بالنسبة للباحثين في الفكر الإسلامي على الصعيد العربي. فمنذ دراسته الجامعية مع نهاية الخمسينات و محمد عابد الجابري على إتصال لصيق و مباشر و وثيق بمقدمة إبن خلدون، و بكل ما كتب عنها تقريبا، و قد إستمر هذا الإهتمام قائما بحيث هيأ دبلوم الدراسات العليا في الفلسفة في المنهج التاريخي عند إبن خلدون، كما كانت رسالته حول "إبن خلدون"،هذا بالإضافة إلى مشاركته في جل الندوات و المهرجانات التي نظمت في مختلف البلاد العربية بمناسبة ذكرى من ذكريات التي تحتفي بإبن خلدون و بشكل من الأشكال. هذا كسرد تاريخي لعلاقة محمد عابد الجابري بابن خلدون، أما تفسير هذه العلاقة و أسبابها فهذا شيء صعب لأنه يتطلب منا أن نقوم بإستبطان ميولات المفكر المغربي محمد عابد الجابري الشخصية، و قد ننجح في ذلك و قد لا ننجح،و لكن هناك واقعة أعتقد أنها صحيحة إلى حد كبير، و هي أن ابن خلدون يشد قارئه إليه شدا (شذتني مقدمة إبن خلدون في بداية اتصالي بالفكر الإسلامي)، و يقول محمد عابد الجابري في هذا الصدد :"أنا أعتقد شخصيا أن أي مثقف عربي، أو غير عربي، قرأ المقدمة - و لو مصادفة - لا بد أنه راجع إليها،و هذه العودة المستمرة إليها تفسر جانبا من إرتباط بهذا المفكر الكبير" (2). لقد قال محمد عابد الجابري، إن ما تبقى من الخلدونية شيئان أساسيان: المشروع النظري الذي بشر به ابن خلدون و الذي لم يتحقق، و لم يجد من يواصل التفكير فيه من جهة، ثم الواقع الحضاري الذي اتخذه ابن خلدون موضوعا لهذا المشروع. إن هذا الواقع الحضاري الذي يفرض نفسه منذ زمن ابن خلدون إلى الأن، يشكل من زاوية مفعوله النفسي الإجتماعي، ما يمكن أن نطلق عليه ب"الهو" الحضاري لشخصيتنا الراهنة، فإذا سلمنا بهذه النظرة، أصبحت دراسة إبن خلدون بالنسبة للمختص و لغير المختص نوعا من "التطهير" السيكولوجي ،شريطة أن تكون الدراسة في مستوى هذه المهمة التحليلية، فالتراث الإسلامي العربي هو في جملته سلسلة من المفكرين و من الأراء و النظريات تعاقبت على مسرح الزمن، و خضعت لقانون التطور و الصراع، بحيث أن المرحلة اللاحقة تلغي بشكل من الأشكال المرحلة السابقة لها، و هذا بطبيعة الحال شريطة أن ننظر إلى المراحل نظرة جدلية أي بوصفها لحظات من التطور، فإبن رشد في نظر محمد عابد الجابري قد حقق قطيعة معرفية مع فلاسفة المشرق السابقين له، مثلما إبن خلدون قد طرح تصورا جديدا للتاريخ لم يسبق إليه أحد. المراجع: 1 - "نحن و التراث: قراءات معاصرة في التراث الفلسفي" محمد عابد الجابري / المركز الثقافي العربي (الطبعة السادسة 1993) 2 - مواقف / إضاءات و شهادات (ص 39)
محمد سعيد: باحث بمركز مدى للدراسات و الأبحاث الإنسانية