بوتفليقة و«محمد فوزى».. ومُفْدِى زكريَّا
بوتفليقة و«محمد فوزى».. ومُفْدِى زكريَّا
خالد عمر بن ققه
التّاريخ يُصْنعُ سلْباً بأهواء البشر حين لا تُنْهى الأنفس عن الهواء، وتُخلّد المآثر والمواقف فيه إذا اتّخذت بٌعداً إيجابياًّ.. له سلطته وسُلْطَانَه، ويخشاه البشر جميعهم، كل حسب مكانته ودوره ومهتمه فى الحياة، وقد يُنْسى كثيراً من أولئك الذين أسهموا فى تحريك مسار حياة شعوبهم وأمتهم، لكن ما إن تكون الأمة فى حاجة إلى التجمع والتعاون، أو تنفض الغبار عن الذكريات المشتركة، خاصة تلك التى تظهر فى أيَّام القدرة عن الاعتراف بالجميل، حتى يَحْضر صُنَّاع التاريخ فى جميع المجالات، فيمثلون بعودتهم حالاً من الفخر بالماضى المشترك بين أفرد الأمة، والزهو بانتصار إرادة اللقاء بين أحضان يُحرِّكُها الحنان، وتُزيِّنُها سنوات العطاء على مستوى الوجدان، وتثمين ودعم العمل الجهادى خلال سنوات ثورات التحرير العربية.
صناعة التاريخ فى دولنا العربية هى محل نقد وشك اليوم، وعلينا أن نُزيل ذلك بكل السبل والوسائل، حتى لا نستسلم لما تحاول قوى الشر فرضه علينا، فى محاولة منها لتكرار ما واجهه عدد من قيادات الدول العربية، وقد تواجهه فى المستقبل المنظور غالبية من هم فى الحكم الآن، مثّلت بدايتها إعدام الرئيس العراقى صدام حسين، نتيجة احتلال أمريكى استفاد من سجّل المظالم، ومن الشعور بالغُبْن لدى فريق واسع على أساس مذهبى تحوَّل خلال السنوات العشر الماضية إلى مُنْتج للظلم بصور أبشع من الماضي، ناهيك عن رهن الوطن كله لمصلحة قوى خارجية، وجاءت الأحداث بعدها عاصفة، من ذلك هروب الرئيس التونسى زين العابدين بن على وقتل الزعيم الليبى معمر القذافي، ومحاكمة الرئيس المصرى محمد حسنى مبارك، وانتهاء بقتل الرئيس اليمنى السابق على عبد الله صالح من طرف الحوثيين.
إن رفض القبول بالأمر الواقع يَتطَلَّب العودة السريعة إلى إعادة تشكيل الوجدان العربى عبر قرارات سياسية تُثوِّر الحاضر عبر استنهاض الماضي، فيما يمكن أن نعْتبره عَصْرِنة الماضي، وليس تحويل الحاضر إلى ماض.. هنا يغدو المدخل الوجدانى مرجعيةً ليس فقط للتذكر، وإنما لجهة القول: إننا نرفض أن نرى دولنا اليوم، كما ترانا قفارا تمثل أطلال الماضى على مستوى منظومة الأفكار والقيم المشتركة والعلاقات الحتميَّة، لأنها فعلاً ليست كذلك، لا لأنها تعجُّ بالحركة والتغيير فحسب، ولكن لأن فيها بشرا يصنعون تاريخهم بالدم من خلال الحفاظ على الدولة على النحو الذى نراه فى كل الدول العربية ـ الصامدة منها، أو تلك التى غرقت فى الفتن ـ ونراها بشكل أوضح فى فلسطين، حين تعلق الأمر بالقدس.
لقد عِشْتُ منذ بدء تشكّل الوعى لديَّ، وأدعو الله أن أبقى على ذلك ما حييت، معتزأ بدينى وعروبتي، مُرَكَّزاً دائما على المشترك بين أفراد الأمة، ومُثمِّناً كل قرار سياسى جامع، وأنا هنا أشترك مع ملايين العرب فى البحث عن التقريب بيننا، ليصبح التأليف بينا قلوبنا مكسبا إيمانياًّ نستحقه لأننا أسهمنا فى تغيير الواقع، وانطلاقاً من هذه القتاعة سعدت كثيرا بالأمر الذى أصدره رئيس الجمهورية الجزائرية الديقمراطية الشعبية «عبد العزيز بوتفليقة»، بإطلاق اسم ملحن النشيد الوطنى الجزائرى الفنان المصرى «محمد فوزي» على المعهد الوطنى العالى للموسيقى فى الجزائر العاصمة.
وحسب تصريحات وزير الثقافة الجزائرى عزالدين ميهوبى فى ندوة حول التراث المادى واللامادي- بأن الرئيس بوتفليقة أمر أيضا بمنح محمد فوزى «وسام الاستحقاق الوطني» ما بعد الوفاة، حيث يأتى هذا التكريم فى إطار تخليد ذكرى مرور 60 عاما على تأليف نشيد «قَسَماً» (1956)، وهذا «عرفان من الجزائر بِمَنْ قدموا لها الدعم والمساعدة فى وقت كان يتطلب ذلك».. وأضاف الوزير: أن إطلاق التسمية على المعهد ومنح الوسام سيكون فى وقت لاحق ربما قبل نهاية السنة الحالية«، مُشيرا إلى أن عائلة الموسيقارمحمد فوزى قد وافقت على وضع حقوق لحن النشيد تحت تصرف الدولة الجزائرية «بشكل نهائي».
ورغم الترحيب بتكريم الملحن الفنان محمد فوزى من مختلف المُهْتمِّين بالفن والثقافة فى الجزائر، إلا أن هناك مسألة يجب توضيحها، كيف لا يذكر الشاعر الكبير«مفدى زكريا» ـ مؤلف «الله المقدس» و«ألياذة الجزائر» وصاحب النشيد الوطنى «قسما» وهو الوحيد الذى تمكَّن من جمع الجزائريين فى حب الوطن من خلال تشكيل الوجدان، ولا يزال تأثيره وسيبقى.
المهم أن كلمات مُفْدى زكرياَّ ولحن محمد فوزى عَمَّقاَ الوجدان العربى المشترك، ولا يزال بعض من الأجيال العربية الذى عاش فى تفاعل مع الثورة الجزائرية مًدْرِكاً أهمية النشيد الوطنى الجزائري، وفى بعض الدول العربية كان ذلك النشيد يعزف فى طوابير الصباح فى المدارس، وهى حالة لا يُمْكِن إن تعود لاختلاف التوجُّهات، وتغيُّر المعطيات، واختلاف الطموحات، والأكثر من هذا تغير معنى الأخوة، حيث لم يعد غيابها مثل السعى إلى الهجاء بغير سلاح، وإنما الأفضل رفضها على خلفية الفرار من سفينة تغرق، فَيَا لَناَ من عرب ندرك الخطايا ومع ذلك نعتبرها حسنات!.
خالد عمر بن ققه