إشكالية ممارسة السلطة التربوية بين المنظور التقليدي و المنظور الحديث
من الأشياء التي مازالت محط جدل و مماحكة داخل المنظومة التربوية مسألة السلطة للأهمية التي تحظى بها لدى عدد من رجال التربية و علم النفس التربوي و الاجتماعي حيث تعتبر الهاجس القوي من بين باقي الاشكالات التي تواجه المجتمع الانساني ، فإذا كانت مسألة السلطة تفرض ذاتها كوسيلة ناجعة أحيانا في حقل التربية و أداة فاعلة لدى أي مربي فإلى أي حد يمكن توظيفها و إلى أي حد يمكن تجاوزها ؟
مما لا شك فيه أن ممارسة السلطة التربوية لها أبعاد سلبية على نفسية أي طفل إذا مورست بشكل عشوائي و بالتالي إلى تأسيس مجموعة من العقد التربوية على مسار الطفل خلال حياته بصفة عامة ، لهذا السبب انشق تيار تربوي يدعو إلى نبذ التشدد في الممارسة التربوية و عدم فرض أي نوع من العقاب سواء كان جسديا أو نفسيا أو لفظيا بترك الطفل على حريته دون تدخل من المربي حتى لا يتهدم البناء النفسي و التربوي عند هذا الطفل ، في حين أن فرقا تربويا آخر اتجه عكس ما اتجه إليه الفريق الأول بدعوته إلى توظيف السلطة التربوية رغم ما يقال بصددها لما تؤديه من دور فاعل في تربية النشء لأن الطفل إذا ما ترك على حريته الكاملة ، فمع مرور السنوات سيصعب ضبطه و بالتالي توجيهه ، إلا في حالات استثنائية خاصة ، وفق نمط معيشي و وسط محيط عائلي جد سليم .
و بين كل هذه الاتجاهات و من ضمنها النظريات التي تغزو مجموعة من الكتب و المراجع التربوية و النفسية و التي في أغلبها تدين الأسلوب السلطوي و تجمع على كونه أهم الركائز التي تعيق مسيرة النمو لدى الطفل و تجعل دوره جد سلبي على المستوى التربوي و النفسي و الاجتماعي ، تبقى التجربة و المراس هي الكفيلة بوضع ممارسة هذه السلطة و تأثيرها على الطفل من خلال المربين و الأساتذة الذين يعايشون يوميا معاناة حقيقية في هذا الباب بعيدا عن التنظير أو الحلقات الفارغة التي لم تأت بنتيجة لهم ، فالمربي أو الأستاذ يقف موقف الحيرة من أمر العديد من الأطفال و التعامل معهم بعد تجربة العديد من الطرق و النظريات ، حيث أن أغلبهم يرون أن ممارسة السلطة لا تعني التسلط أو القمع أو فرض الجبروتية بقدر ما هي ممارسة تحتاج لنوع من حسن التعامل بطريقة الخبرة و استعمال الحيلة و الذكاء ، لنه من الممكن أن تتحول السلطة في هذه الحالة إلى نوع من التسامح و التعلق و الترابط العلائقي المتين بين الطفل و المربي ، فالتربية لا تنبني على المفهوم الخاطئ لسلطة المربي بل على أساس الذكاء الذي ينطلق من المحبة فالمربي الناجح الذي يستطيع فرض سلطته الذكائية على أطفاله من منطلق الحب للمهنة التي يمارسها و حبه للأطفال هو الذي يستطيع إشعارهم بوجوده و عدم الإعراض عنهم و المعاملة بطريقة غير قاسية بتحديهم و الاستعلاء عليهم و القبض عليهم بيد من حديد لأن المربي العدواني لا يولد إلا تلاميذ بتصرفات أشد عدوانية شأنهم في ذلك شأن غيرهم من البشر سواء كانوا من المتعثرين دراسيا أو من المتفوقين ، فعلى المربي أن يكون على وعي كامل بالظاهرات الشخصية البينية و السيرة على نفسه عند مخاطبته لتلامذته لأنها من الأساسيات التي تطور العواطف الايجابية لديهم و بذلك يمكن أن نجعل من احترام الحرية الداخلية للفرد أداة تشكل المنطلق الأساسي لممارسة السلطة التربوية التي لا يمكن للتربية أن تكون بدونها ، أما السلطة التي يجب أن تنبذ و تحارب هي تلك التي تبثر الحب و تحوله مقتا و عداء تترتب عنه عدة أعراض وخيمة على الطفل أهمها العقد النفسية لأننا نكون قد قتلنا كرامة الطفل و وجوده كذات و شخصية متواجدة ضمن محيط قابل للتأثر بأقل القليل من الأحداث أبسطها الإهمال و التقصير .
و حسب اعتقاد العديد من المربين أن الطفل في حاجة إلى سلطة الراشد لكونها فعل تربوي طبيعي و ضرورة حيوية لوجوده الاجتماعي و ضمان الاحساس له بالأمن الفيزيائي و العاطفي و قد أكدت التجارب الميدانية على أن المربي أو الأستاذ الذي يفرض سلطته على الأطفال يلقى من جانبهم الحب و التقدير عكس الذي يتركهم و شأنهم ، فالطفل في حاجة إلى هذا الأمن للمحافظة على توازنه الوجودي و هذا هو هدف التربية الأساسي الذي يطمح إلى تحقيق الرصانة الأخلاقية و التماسك الانفعالي عند الأفراد ، و بدون سلطة مبنية على أسس من الذكاء و حسن التعامل لا يمكن غرس القيم الأخلاقية في نفوس الأطفال ، و شعور الطفل بالقوة و السير على طريق الرشد عارفا أن الإرادة القوية الناجمة عن السلطة تعزز إرادته الشخصية في حال الضعف و القصور ، ليبقى عامل فرض الحب أولا على الطفل و جعله يحبك هو المفتاح الأسمى لفرض هذه السلطة بدون تخوف لأنه تبين من خلال التجارب أن الأستاذ أو المربي الذي ينال حب الأطفال و تقديرهم هو الوحيد الذي يستطيع أن يؤثر فيهم و يستطيع أن يعمل على تطوير ذكائه و توجيهه بالسلطة التي يراها مناسبة له ،لأن طبيعة الطفل القابلة للتأثر بقوة حساسيتها البريئة لا تجيد ممارسة السلطة التربوية التي يشتكي منها أغلب المربين ، فالسلطة التربوية الحديثة تتنافى قطعا مع كل ما هو قسري لكونه يتنافى مع النمو و الازدهار ، فالسلطة المرغوب فيها هي سلطة العاطفة القائمة على مبدأ الاحترام و التقدير على أساس أن لا يطغى عليها جانب الذاتية و التداخل بين شخص المربي و ما عليه .